رضوان السيد 

 قال أبو عزرائيل (تأملوا هذه الكنية!)، وهو أحد زعماء الميليشيات العراقية الجديدة، إنّ ثلاثة أرباع أهل الأنبار إنما هم من الدواعش، أو من أنصارهم! وقد جاءت هذه الملاحظة من جانبه بسبب تكاثر هجمات «داعش» وخلاياه النائمة بناحية الشرقاط، مما اضطر القوات العسكرية والأمنية إلى إجلاء سكان الشرقاط الذين عادوا إلى مساكنهم بعدما حرر الجيش والشرطة الاتحادية والحشد العشائري قسمًا من البلدة الكبيرة التي يخترقها نهر الفرات. لقد أرادت القوى الأمنية التحقيق مع سائر الذين عادوا لاكتشاف الدواعش في أوساطهم! وواقعة الإجلاء، وكلام الميليشياوي أبو عزرائيل أثار رُعب البعض، وسخط آخرين كثيرين.
إنّ المفروض أنّ جيش الدولة (الذي يتضمن فِرَقًا عسكرية، وقوات مكافحة الإرهاب، والشرطة الاتحادية) هو الذي يقاتل الدواعش. والدولة أو السلطة الشرعية هي التي تملك حقَّ الإرغام أو الإخضاع أو يسلِّم معظم الناس لها بذلك. وعلى ماذا تقوم الشرعية أو كيف تتحقق؟ يقول ماكس فيبر إنّ لها أحد ثلاثة مصادر: التقاليد والأعراف مثل السلطات الملكية الوراثية، أو الدساتير والانتخابات، أو الكاريزما الظاهرة لشخصٍ معين. والسلطة العراقية القائمة تملك الزعم أنها جاءت نتيجة انتخابات عام 2013 - 2014. ورغم أنّ الكاريزما لا تحضر في أي من قيادات الصف الأول لدى سائر الأحزاب والجهات؛ لكنّ هناك سلطات تقليدية دينية أو جهوية أو عشائرية، تستعين بها «السلطات الدستورية»، فتكون الشرعية أو ينبغي أن تكون خليطًا من هذا وذاك، وهذا لا يجوز لأن الميليشيات لا شرعية لها من جهة، ولأنها تمارس على الأرض ممارسات عنيفة، ضد المدنيين. لكنّ المالكي يستطيع الاعتذار بأنّ الجيش العراقي لا يستطيع وحده مقاتلة «داعش» وإخراجها من سائر المحافظات، ويقوم في الوقت نفسه بإجلاء السكان ثم إعادتهم وإعمار ديارهم، وما يُسمَّى بمسْك الأرض لفرض النظام وحتى لا يتمكن الدواعش من العودة. وقد تحدث النبي (صلى الله عليه وسلم) عن معرَّة الجيش، أي ما تقوم به الجيوش عادةً من تصرفات غير مسؤولة تجاه المدنيين، وتجاه المقاتلين المستسلمين. وهذا والجيش منتظم ومنضبط أو هكذا المفروض، فكيف والذين يقاتلون مع الجيش غير منضبطين، وتُسميهم الأدبيات الحديثة: قوى غير نظامية.
لقد اشتهر عن رئيس وزراء العراق السابق المالكي قوله عام 2012 إنه لا بد من حسم الصراع على السلطة في العراق إلى الأبد عن طريق الإبادة أو التهجير. بيد أنه رغم استخدام الجيش والميليشيات فإنّ ذلك لم يكن ممكنًا وإن كانت للقوى التي يتزعمها المالكي اليد العليا حتى ظهر «داعش» واستولى متحشدًا بين سوريا ومناطق العراق المجاورة. وقد روَّع ذاك الحدث الهائل الحاكمين في العراق وإيران، فكانت فتوى الاستنفار أو النفير للدفاع عن المراقد، شرعنت للميليشيات بعد أن انسحب الجيش من الأنبار وصلاح الدين وهرب زُهاء الستين ألفًا أو السبعين منهم من الموصل. وقتَها كانت المفاوضات الأميركية - الإيرانية على النووي في عزّها، وقد رأى فيها الرئيس أوباما فرصةً للضغط والإغراء في الوقت نفسه، فقال إنه يشعر بالمسؤولية الأخلاقية عن الحدث العراقي، وراح بسرعة لإمداد الأكراد، ولإعادة بناء قطعات الجيش، في الوقت الذي دخلت فيه إيران بعسكرها علنًا بحجة الدفاع عن حدودها من جهة، وتبنّي الميليشيات القديمة والجديدة وقيادتها للوقوف في وجه «داعش» الزاحف. على أنّ المحنة التي عاناها المدنيون في المناطق الشيعية لا تُقارن بما عاناه مدنيو السنة في المناطق التي استولى عليها «داعش». ولا أتحدث هنا عن مشكلات النساء والأطفال والشيوخ، بل عن المشكلات السياسية؛ إذ إن القيادات العشائرية انقسمت بين «داعش» والمالكي وأولئك الذين يريدون إنشاء أو إقامة مناطق مستقلّة بالعراق. وما اجتمع الاستقلاليون، بل حاولت كل عشيرةٍ منذ عام 2011 الاستيلاء على مدينةٍ أو منطقة. وبسبب ازدواج الصراع فيما بينها ومع عملاء المالكي وإدارييه، أمكن لـ«داعش» أن يستولي، وأن يحتذب إليه أُناسًا كثيرين كرهوا المالكي وكرهوا زعاماتهم العشائرية المتصارعة. وهذا ما يعنيه أبو عزرائيل بأنّ ثلاثة أرباع أهل الأنبار كانوا مع «داعش» أو من أنصارها. لقد ظلت الفكرة ثابتة لدى القيادات الشيعية الموالية لإيران أنّ الموضوع هو الصراع على السلطة، وأنه لا بد من حسمه لصالحهم، كما كانت القوى السنية قد حسمته لصالحها منذ استيلاء بريطانيا على العراق عام 1920. بينما ما كانت لدى القوى السياسية والعسكرية السنية هذه العزيمة وهذا الوضوح، وذلك لأمرين اثنين: قوة فكرة الدولة العراقية الواحدة في أوساطهم، واقتناعهم العميق أنّ «داعش» انشقاقٌ ديني وسياسي وأنه لا يصلح لأن يكونَ بديلاً عن الدولة العراقية. وهؤلاء الذين ما حسموا أمرهم هم الذين لجأوا إلى الأردن أو المنطقة الكردية بحسب الجوار الذي كانوا فيه بعد أن صارت سوريا الأسدية ضدّهم وكانت قد ألجأتهم من قبل عندما كانت متخاصمةً مع المالكي. وهؤلاء أنفسهم هم الذين آل أمرهم الآن لأن يكونوا في معظمهم مع تركيا. فالخصم الإيراني ونصيره العراقي بالداخل يريد إخضاع تلك المناطق واستلحاقها بحجة أنّ «شرعية الدولة» معه تعاونُهُ في ذلك الولايات المتحدة الأوبامية، أما هو فما وجد نصيرًا في جواره العربي ولا بديلاً في «داعش»، فاعتبر تركيا الجوار الأقل ضررًا والأكثر قدرةً على الحماية في الوضع الراهن. لكنّ تركيا ما كانت تطمح في العراق وسوريا لأكثر من حماية حدودها من العدو الكردي الذي يريد إقامة كياناتٍ منفصلة في العراق وسوريا وتركيا، ولذا فإنها - وبخلاف إيران - ما كان عندها وليس عندها مشروع لمساعدة العرب السنة والتركمان السنة بالداخل العراقي أو الداخل السوري، وإن أكثرت من الصراخ من أجلهم، بل العمل معهم ومن خلالهم لحماية تلك الحدود أو إخلائها من المسلحين الأكراد.
ما هي مآلاتُ الصراع على السلطة في العراق وسوريا؟ وسط الظروف الراهنة والمتمثلة في وجود سلطتين بالعراق وسوريا تساعدهما كلٌّ من الولايات المتحدة وروسيا الاتحادية وترعاهما إيران بشكلٍ مباشر؛ فإنّ الجولة الحالية من الحرب ستحسم بتكاليف هائلة تفوق التصور الإنساني لصالح النظامين العراقي والسوري اللذين يقعان في قبضة إيران. إنما المشكلة في هذا السياق، كيف يمكن التقليل من خسائر خسارة هذه الجولة من الحرب؟ ذلك أنّ القيادات المعارضة لنظام الحكم في البلدين، والتي لم تستطع في صعودها تحديد أهداف واضحة للمعارضة التي حملت السلاح باستثناء الحديث عن إسقاط المالكي والأسد، غير قادرةٍ الآن، وفي العراق أكثر من سوريا، لاتخاذ قرار بالاعتراف بالخسارة والتصرف على أساس من ذلك. ولا شكّ أنّ الذي يزيد الأمر صعوبةً عليها، أنّ الطرف السلطوي الذي يستخدم أمثال أبو عزرائيل وميليشيات الحشد والأفغان وحزب الله، يعتقد أنه يملك أن يفرض «الحلّ النهائي»، شأن ما اعتقده هتلر في صراعه مع خصومه وأعدائه.