فهيد العديم

تعليمنا راكم رماد التلقين والإجابات الجاهزة المعلّبة فوق جذوة أسئلة ملتهبة، ولهذا نخاف الريح والأماكن المكشوفة، والرأي الآخر، والفكرة الغريبة

أجمل ما في أخبارنا ذات "الخصوصية" المحلية أنها تستفزك للتفكير والتأمل والتساؤل، وأسوأ ما فيها أنها توقظ شيطان أسئلتك الذي لم تفلح سنوات التلقين التعليمي في قتله، مثلما لم تتركه حراً طليقاً محلّقاً في ملكوت الأسئلة الشاقة حيناً، والمسلّية للدموع أحياناً، (لا يوجد خطأ في كلمة مسليّة عزيزي المدقق اللغوي)، فتعليمنا راكم رماد التلقين والإجابات الجاهزة المعلّبة فوق جذوة أسئلة ملتهبة، ولهذا نخاف الريح والأماكن المكشوفة، والرأي الآخر، والفكرة الغريبة. 
كانت كثرة الرماد عند العرب قديماً كناية عن الكرم، فعندما يتراكم الرماد حول موقد النار فهذا يعني أن صاحب النار كريماً، هذا قبل أن تتحول دلالة المفردة وتكون رمزاً للجبن والخوف، تحولت المفردة من كونها رشيقة في دروب الكناية والمجاز لكونها حقيقة لا رمزية، فأصبح الرماد ذاته هو المطلب لا الكرم ولا الدفء، أصبحنا نحافظ على الرماد كونه الغاية لا وسيلة بديلة من وسائل متعددة، هذا الرماد هو ما يجعلني الآن أتبرّك به علّني أجد طريقة تساعدني لأُعتق حشرجات أسئلتي، وكأنني أراهن على أن أسطورة طائرة الفينيق تعد مقبولة في مجتمعنا ذي اللونين الأسود والأبيض فقط، وأي لون بينهما هو في أحسن الأحوال يُخشى عليه من النفاق، ويحتاج صاحبه أن يُقدم كشفا لسلامة نواياه مُصدقا من العدول الثقات.
كل هذه الهواجس انهالت وأنا أقرأ خبراً في صحيفة عكاظ عن حكم قضائي بسجن مدير شركة من جنسية عربية عاماً وأربعة أشهر، وجلده 900 جلدة، بعد طلبه من موظف حلق دقنه، فور قراءة هذا الخبر هاجمتني شرارة سؤال من ذات النار الكامنة تحت الرماد: ماذا لو كان مدير الشركة سعوديا سنيا سلفيا وطلب من الموظف المسيحي أن ينزع الصليب الذي يرتديه وهدده إن لم يفعل ذلك؟ مرة أخرى ماذا لو كان العامل هندوسيا وطلب منه أن يغير قصة شاربه التي تمثل سيماء الهندوس؟ هذه الأسئلة كانت فكرة غبية بالطبع، وبإمكان أي مسلم أن يجيب عليها بالعقل والمنطق، فحتى العوام والدهماء من الناس يعرفون أنها أسئلة متهالكة، وقد استغفرت الله كثيراً واستعذت من الشيطان الذي وسوس لي بمثل هذه الأسئلة الشيطانية، لكن رياح الأسئلة كأن الريح تحتها، إذ اشتعلت من حيث لا أحتسب، تجذبني لزاوية أخرى وتحديداً عند حكم الجلد في الأحكام التعزيرية، فمثلاً حدّ الزاني مئة جلدة، فيما التحرش وهو أقل من الزنا صدر حكم من قبل بـ300 جلدة، ولماذا لا تكن مئتان أو أربعمئة مثلا؟ 
ولأننا عرب مهتمون بالأنساب فإنني أعلن أن نسب هذا السؤال لم يكن بفعل عبث رياح غربية تحاول أن تثير شكوكي في معتقداتي وتخلخل رماد يقيني، لكنني انطلقت من رحمة سيد البشر عليه أفضل الصلاة والسلام القائل: (لا تجلدوا فوق عشرة أسواط إلا في حد من حدود الله)، وهذا ما جعلني أوغل في هذه التساؤلات التي أجزم أنها ستضيء لروحي المزيد من عظمة وإنسانية هذا الدين.