راجح الخوري

من الطبقة الثانية والسبعين في برجه الواقع في مانهاتن، بالكاد يمسك الملياردير دونالد ترامب بحقائق المشهد المضطرب في الولايات المتحدة الأميركية نتيجة انتخابه، فكيف سيستطيع الرئيس دونالد ترامب أن يمسك من الطبقة الثانية في البيت الأبيض، بتفاصيل المشهد المتوجس في معظم دول العالم من توليه قيادة الدفة في أقوى دولة في العالم؟!
الرئيس باراك أوباما الذي كان قد انخرط شخصيًا في المعركة الانتخابية ضد ترامب رافعًا شعار «هذا رجل يجب ألا يصل إلى البيت الأبيض.. هذا رجل غير مؤهل لتولي الرئاسة»، ينخرط الآن في ما هو معاكس تمامًا؛ ليس بمعنى الاقتناع بأن ترامب صار مؤهلاً لتولي مسؤوليات قيادة الإدارة الأميركية الجديدة، بل بمعنى احترام قواعد الديمقراطية وقبول النتيجة التي أفرزتها الانتخابات.
وأيضًا من قبيل الحرص على انتقال سلمي هادئ للسلطة، وسط أقل مقدار ممكن من مشاعر التشكك، التي تجتاح دولاً كثيرة، تتوجس من أنه لو قام ترامب فعلاً بوضع سياساته على قاعدة الشعارات العرقية والعنصرية التي رددها في الانتخابات، فإن زلزالاً حقيقيًا سيضرب العلاقات الأميركية مع دول العالم، من أقرب الحلفاء الأطلسيين مثلاً إلى أبعد الخصوم السياسيين في كثير من المناطق!
وهكذا في جولته الوداعية من اليونان إلى ألمانيا فأميركا اللاتينية حرص أوباما على مطالبة الذين يعتريهم القلق من القادم إلى البيت الأبيض، بألا يبالغوا في استنتاجاتهم السلبية ولم يتردد في مخاطبة الجيران اللاتينيين، الذين يلوح ترامب بهراوات غليظة في وجه جالياتهم داخل أميركا، بقوله إن رسالته الأساسية إليهم هي عينها الرسالة التي وجهها إلى الأوروبيين، أي أنه ليس من الضروري افتراض الأسوأ، بل من الضروري انتظار الإدارة الجديدة كي تبدأ عملها وتضع فعلاً سياساتها و«عندها يمكن إصدار الأحكام على ما إذا كانت تتفق مع جهود المجتمع الدولي للعيش المشترك في سلام ورخاء».
وكأن في خاتمة هذا الكلام نوعًا من الحذر الدفين من ألا تتفق سياسات ترامب مع جهود المجتمع الدولي السلمية، وفي أي حال يريد أوباما انتقالاً سلسًا للسلطة على صعيدين؛ الداخل الأميركي، الذي يتظاهر احتجاجًا على فوز ترامب ورفضًا لشعاراته الحادة حيال الملونين والعرب والمسلمين، وانتقالاً سلسًا للعلاقات الأميركية مع الخارج، خصوصًا من دول الاتحاد الأوروبي التي تنادت فورًا إلى البحث عن بدائل ذاتية من المظلة الأطلسية، التي هدد ترامب صراحة بأنها لن تكون متوافرة ما لم يدفع الأوروبيون الثمن، تمامًا على طريقة حديث أوباما السابق إلى مجلة «أتلانتيك» عن «الراكب المجاني»!
لكن أين دونالد ترامب من كل هذا قبل شهر من موعد تسلمه السلطة من أوباما؟
عمليًا يسعى ترامب إلى إزالة جو الشكوك التي تتعالى، في ظل الحديث المتزايد عن حال من الفوضى التي تحيط بمساعيه السرية لرسم معالم إدارته، حيث ترددت الأنباء عن حصول مواجهات حادة داخل برج ترامب، وكانت شبكة «سي إن إن» قد نقلت عن مصادر مقربة من فريق ترامب أنها تشبه «الصراع بالسكاكين بين أعضاء اللجنة»، وهو ما أدى إلى انسحاب أربعة من أعضاء هذا الفريق!
والتحدي بإزاء هذا أن على ترامب أن يذلل كثيرًا الصعوبات ويعالج كثيرًا من العقد في الطريق إلى تشكيل حكومته، وأيضًا تسمية أربعة آلاف موظف فيدرالي، لكن حال الغموض التي تسيطر حتى الآن تربطها «واشنطن بوست» بما كان سائدًا قبل ليل الثامن من الشهر الحالي، عندما حصلت المفاجأة غير المنتظرة، ذلك أن غياب الاستعدادات التقليدية يشي بأن ترامب لم يكن يتوقع الفوز الذي وصفه بـ«المعجزة».
يوم الأربعاء الماضي، اضطر ترامب إلى الرد على وسائل الإعلام التي تحدثت عن «برج الفوضى العارمة»، فاعتمد تكرارًا على «تويتر» ليغرّد: «اختيار حكومتي ومناصب أخرى يتم وفق عملية منظمة جدًا، وأنا وحدي أعرف من يشارك في النهاية»، لكن قبل أن يقرأ المراقبون تغريدته كانت «نيويورك تايمز» المشتبكة معه قد رصدت مغادرة نائبه مايك بنس البرج في مانهاتن، دون الإعلان عن أي قرار يتعلق بمناصب حساسة في الإدارة المنتظرة، أما ترامب فقد تعمّد الخروج إلى مطعم قريب بعدما تم إبعاد الصحافيين، بما يوحي بأنه لا يملك حتى الآن ما يعلنه عن تعييناته، التي يترقبها العالم، خصوصًا في وزارات الخارجية والدفاع والداخلية لاستشراف المعالم المحتملة لخطه السياسي داخليًا وخارجيًا.
المراقبة الدقيقة لتغريدات ترامب وتصريحات مستشارته كيليان كونواي تحديدًا، توحي تمامًا بأنه يتسلل متراجعًا عن مواقفه السابقة المثيرة للتقزز والقلق، ولكن من خلال عملية نزول تدريجي على درج خلفي، يسلكه خطوة تلو الخطوة في محاولة واضحة لكسب المقبولية عند خصومه الكثيرين، لكن دون خسارة سريعة لمؤيدي شعاراته الشعبوية الجامحة، وفي هذا السياق أعلنت كونواي يوم الأربعاء الماضي أن «الرئيس المنتخب لا ينوي السعي إلى رفع قضية جنائية ضد هيلاري كلينتون»، بعدما كان قد توعد بسجنها في خلال المعارك الانتخابية على خلفية فضيحة استخدامها بريدها الإلكتروني الخاص خلال توليها الخارجية، وهم ما يمدّ الجسور تمهيدًا لتسوية مع الديمقراطيين ويطوي إحدى أكثر الصفحات سوادًا وسلبية خلال الحملة الانتخابية.
في سياق عملية النزول عبر الدرج الخلفي، تعمّدت كيليان قبل يومين بثّ شريط فيديو مدته دقيقتان ونصف الدقيقة يتحدث فيه ترامب عن خططه للأيام المائة الأولى من رئاسته، وكان من الملاحظ أنه تراجع عن كل ما سبق أن لوّح به عن إقامة الجدار على حدود المكسيك، وعن إبعاد المهاجرين غير الشرعيين الذي بات يقتصر على الذين لديهم سجلات جنائية، وهو ما كانت تفعله أصلاً حكومة أوباما، كما أنه غيّر رأيه بالنسبة إلى قانون «أوباما كير» الذي سبق أن هدد تكرارًا بإلغائه، لكنه صار الآن يتحدث عن إدخال تعديلات عليه.
تتركز التساؤلات على مَن الذي سيتولى قيادة الدبلوماسية الأميركية وزيرًا للخارجية بعد جون كيري، وحقبة الخيبات العميقة والواسعة التي لحقت بالكثيرين، خصوصًا في المنطقة العربية ودول الخليج العربي، على خلفية الفشل الذريع الذي سجلته في الملف الفلسطيني كما في قضية العلاقات مع الحلفاء التاريخيين في الخليج الذين ضبطوا أوباما في أحضان الإيرانيين أو العكس، كما في التعامي المستهجن عن الأزمة السورية الدامية وتركها مشاعًا دمويًا أمام الاختراق الروسي، وكذلك على خلفية ذلك الرهان الخائب على «الإسلام السياسي» الذي كان يهدف إلى أخونة المنطقة عبر مصادرة الثورة المصرية.. والأسماء التي تظهر على لوحة بورصة ترامب للتعيينات تثير المزيد من الريبة والقلق!