الكويتية مها المنصور: تتنقّل بين المدارس الفنية برشاقة لا تحفل بالتصنيفات

بسمة شيخو

 الدهشة تملؤك وأنت تتجوّل ضمن أعمال مها المنصور- الفنانة الكويتية، خريجة كلية التربية الفنية في الكويت- حتى تجزم وتتيّقن بأنها تحمل في داخلها عدداً من الفنانين، لكلٍ منهم أسلوبه الخاص وشخصيته المميّزة. فالأعمال أحياناً تكون على طرفين متباعدين لا يربط بينهما إلا روح المنصور التي تظهر في جميع أعمالها، ابتداءً من الأعمال الموغلة في التفاصيل الشرقية إذا جاز هذا التعبير، فنجد أن المساحات البيضاء قد طمست بزخارف نباتية منوّعة تكون في الأغلب بأحجام كبيرة، منفّذة بأسلوب بعيد عن الدقة المبالغ بها والتي تتبع عادةً في الزخارف، فنجد أن المنصور ترسمها بشكلٍ عشوائي وتلوّنها كذلك. وفي أعمال أخرى نجد أن حضور الزخارف يكون خجولاً، مجرد زخرفة صغيرة وغالباً ما تكون متلاشية، عنصر صغير يحمل على ظهره الهوية التي تريد المنصور إبرازها من خلاله. بالإضافة إلى رسم البيئة المكانية التراثية من خلال استحضار الأبواب القديمة بأقواسها المتينة دون أي تفاصيل أخرى للبيت، وكأن هذا الباب هو مدخل لعالمٍ غرائبي في خيال مها المنصور، هنا البساط ليس أحمر بل هو ملوّن ومزخرف؛ وليس أمام الباب فقط، بل إنه ممتد على طول اللوحة وعرضها، هل من ترحابٍ أكثر من هذا؟

 وليس بعيداً جداً عن التراث والزخارف نجد الحرف العربي وقد ملأ أعمال المنصور بأشكال منفردة تشكل مع بعضها تكوينات جمالية خالية من المعاني، وأحياناً تجتمع مع بعضها بشكلٍ هادف وتصنع كلمات اختارتها مها المنصور بعناية لتعطي من خلال هذه الإشارات النصيّة معاني محددة: «الحرية»، «الحياة» و«المرأة»… ونجدها أحياناً تنشغل بالمعنى فتستدعي مفردات إنكليزية love مثلاً، حيث نجد هذه الكلمة تتصدر إحدى اللوحات محاطة بكلمات ونصوص عربية. أجل اللوحات تحمل نصوصاً طويلةً أحياناً مكتوبة مباشرةً على اللوحة أو مقصوصة من صحيفة أو مجلة، وباللغتين أيضاً (العربية والانكليزية)، لم تستخدم المنصور هذه النصوص غالباً بصورة تستطيع معها قراءتها، فالخط صغير أو غير واضح أو أن النص بالمقلوب؛ فالنصوص هنا عناصر من عناصر اللوحة شأنها شأن المفردات الشكلية التي تحرص المنصور على وجودها في معظم الأعمال، وكلّ من هذا المفردات يحمل في جعبته معاني واضحة تصل للمتلقي فور مشاهدة التكوين أو بعد سرحانٍ قصير في العمل. على سبيل المثال «المقص» الذي يستطيع بحركاتٍ عبثيّة أن ينهي حالة معينة ويصنع حالة جديدة، هو أداة للتغيير وربما للتشويه، «الساعة» رمزٌ للزمن فهي الحاضر والمستقبل وربما هي ما مرّ، هي الثبات على الحال ظاهرياً بينما الحياة تمضي بعد أن وضعنا ثقتنا بساعةٍ معطّلة، «المليكان» و«صورة مارلين مونرو» رمزان لمقاييس الأنوثة والجمال التي حُبست المرأةُ داخلهما… وغيرها الكثير من العناصر التي تختصر الكثير من الكلام وتمنح أعمال المنصور رمزيّة مكثّفة.

على كلّ حال تقنية الكولاج التي استخدمتها الفنانة لم تقتصر على النصوص اللغوية، بل كانت في معظمها صوراً لنساء مختلفات (فرحات، منكسرات، بأجنحة أو ضمن صناديق….) لا يجمعهن سوى إرادة المنصور التي تكوّن منهن لوحة، وهنّ أمام خيارين الآن، فإما أن يكنّ خلفية للوحة من لوحاتها، أو أنهن العناصر الأساسية للوحةٍ أخرى. إن استخدام الكولاج للصور أو الجرائد مع الطبعات التي تتوزّع في أنحاء العمل، منح بعض الأعمال حس ملصقٍ إعلاني، طبعاً أقصد ملصقات إعلانية فنية كتلك التي كان يصنعها هنري لوتريك. التكرار موجود لدى مها ليس في الشكال الملصقة فقط بل حتى في الأعمال المرسومة بشكل كامل، حيث تعمد إلى تكرار بعض العناصر في لوحة أو في عدة لوحات.
ترى المنصور أن المرأة وجمالها وتحولاتها ومزاجيتها تعدّ الهاجس الأول في لوحاتها، فهي الموضوع الذي غالباً ما يستفزها فنياً ومعنوياً، ومن هنا نفهم عدد الأعمال التي تحتوي على المرأة فقط بوضعيات وتعابير متباينة: استرخاء وتمدد، قلق وترقب، اختفاء وحضور، وتكميم للفم بلصاقٍ أحمر.
الأشكال المستطيلة ثيمة موجودة في أغلب أعمال المنصور وتأتي بصيغ مختلفة، فإما مستطيلات ملوّنة متراكبة فوق بعضها البعض وكأنها تفاصيل من لعبة الأحجية، وبين هذه المستطيلات أو فوقها تندس العناصر الباقية، ساعة، بوصلة، برج إيفل، زخرفة، جواز سفر، فراشة… أو أنها تكون بشكل إطار ملوّن يحبس داخله عددا من العناصر التي تجمعها الصُّدفة، فيصنع لوحة ضمن لوحة، أو أن الإطار يحوي داخله مساحة بيضاء ويتموضع في اللوحة الأصلية، فيكوّن حاجزاً بصرياً يمنعك من مشاهدة العمل بانسيابية، وتحسّ أن عليك رفعه وتأمل التفصيل الخفي الغائب، وهو إشارة لكثير من الأمور التي نجهلها أو يخفونها عنّا وكيف أنها تحجب اكتمال الجمال والرؤية.
وأخيراً نجد المستطيلات البيضاء الضخمة تشكّل أوراق لعبة الورق «الشدّة»، وفق مفهوم الفنانة، فمثلاً المرأة في ورقة الديناري السوداء كما رغبت لها المنصور أن تحمل في وسطها عالماً كاملاً للمرأة، وليست المرأة وحيدة هنا كما العادة فهي محاطة بالأزهار والفراشات، ساعة ولافتة ترمز لمنع الموبايل، وبجانبها صور كثيرة لنساء أخريات… في أعمال أخرى نفتقد هذه المستطيلات، بل نكاد لا نرى خطاً مستقيماً واحداً، فتكون اللوحة مزيجاً من الدوائر والخطوط المنحنية.

التوازن مترنّح في بعض لوحات المنصور، حيث تعمد إلى تكديس عناصرها في إحدى زوايا العمل وتترك البياض والفراغ يستولي على المساحة اللونية؛ بينما يكون موجوداً بثقة في أعمال أخرى حيث تملأ جانباً من العمل بألوانٍ حارة وثقيلة، والطرف الآخر بتكوينات منوّعة فنجد اللوحة مستقرة ككفتي الميزان.
الألوان لدى المنصور منوّعة أيضاً وفق ثلاث مجموعات، الأولى منها ترابية هادئة تحوي الألوان البرتقالية والبيج والبني؛ والثانية ألوان «أنثوية»، وأقصد بهذا التوصيف أنها تخلق عالماً شبيهاً بعالم الدمى؛ والأخيرة ألوان فاقعة قويّة، مثل الأصفر والأحمر. عن ذلك تقول المنصور: «أستخدم اللون الأحمر عموما لأنه يرمز الى القوة والجرأة كما أنه رمز أنثوي وخاصة أن لوحاتي إجمالا تتبنى قضية المرأة عموماً للتعبير عن حالاتها المختلفة، كما أنني أستخدم اللون الأسود لأنه يعطي قيمة للوحة ويعبر عن الحزن الموجود في داخل نفوسنا».
وللفنانة المنصور تجارب بعيدة عن اللوحات تندرج تحت صيغة الفن المفاهيمي، كاللافتة الطرقية التي تترجم بشكلٍ عادي «بطريق للمشاة» لولا ما أضافته المنصور للافتة وهو ميزان العدالة الذهبي، لكنه مائل هنا! فهل هذا يعني أن الطريق سيكون خالياً من العدالة مثلاً، أم أن المشاة قد داسوا الميزان وأخلوا توازنه، أم أن هذا الطريق الوحيد لتقويم العدالة العرجاء!
أعمال المنصور تتنقل بين المدارس الفنية برشاقة بالغة لا تحفل بالتصنيفات، وتريد أن تقول كلمتها بالصيغة التي تراها مناسبة دون أن تلتفت إلى الوراء لترى النتائج.