فهمي هويدي

"عيد الشكر" الذي يحتفل به كل بيت أمريكي في أواخر نوفمبر كل عام له قصة دامية مسكوت عليها تستحق أن تروى، ذلك أن المهاجرين الإنجليز الأوائل الهاربين من اضطهاد الكنيسة والمتأثرين بالثقافة التوراتية وصلوا إلى العالم الجديد الذي سكنته شعوب وقبائل الهنود الحمر في أوائل القرن السابع عشر (عام ١٦٢٥م). وهؤلاء وصفوا بأنهم «حجاج» واعتبروا ذالك العالم بديلا عن أورشليم والأراضي المقدسة. لذلك سموه بمختلف الأسماء التي أطلقها العبرانيون على بلاد كنعان (المنطقة التاريخية التي تشمل جنوب سوريا وفلسطين). وقصة أولئك «الحجاج» هي الأصل الأسطوري لكل التاريخ الأمريكي الذي يروي النهاية السعيدة لنجاة أولئك الحجاج من ظلم «فرعون» البريطاني وخروجهم من بطشه إلى (أرض الميعاد).

تقول الأسطورة إن الحجاج الإنجليز حطوا رحالهم في بلايموث بولاية ماساشوستس لجمال الطبيعة فيها وجداول مياهها العذبة وحقولها الخصبة وخيرها الوفير. وكان سكان الولاية الأصليون ينتمون إلى هنود «البيكو» الذين أحسنوا استقبالهم، إذ أنقذوهم من الموت جوعا حين أشركوهم في الاحتفال بعيد حصادهم الذي اعتبر عيدا لشكر الرب على النهاية السعيدة التي تكللت بها رحلتهم الشاقة. وبمضي الوقت علمهم الهنود كيف يزرعون الأرض وكيف يعتمدون على خيراتها، الأمر الذي ساعدهم على الاستقرار في مستوطنتهم التي أقاموها. ويتحدث المؤرخون الذين حققوا تلك المرحلة عن فتى هندي اسمه سكوانتو كان قد تمكن من لغتهم وقام بدور الوسيط بين الحجاج الوافدين وبين أهله الهنود الحمر وكيف أنه في الشتاء الأول الذي هددوا فيه بالهلاك أحضر لهم الطعام وعلمهم كيف يزرعون الذرة واليقطين (نبات القرع)، وأين يصطادون السمك ويسمدون الأرض ببعض أنواعه. بل وكيف يغتسلون ويتخلصون من قذارتهم وروائحهم الكريهة، وبذل في ذلك جهدا لإقناعهم بالاغتسال والنظافة التي لم يكونوا معتادين عليها.

لم يخطر على بال هنود البيكو وهم يغمرون الوافدين الجدد بتقاليد الكرم الشائعة بينهم أن ضيوفهم يضمرون لهم شرا، ويتطلعون إلى اقتلاعهم من أرضهم طمعا في خيراتها وثرائها. وأسفر هؤلاء عن وجههم الحقيقي حينما عمدوا إلى قتل أعداد منهم. بمن في ذلك الذين كانوا يحملون إليهم الطعام والهدايا. حتى أنهم كانوا يقدمون إليهم المغريات الكثيرة لزيارتهم من أجل أن يكمنوا لهم ويقتلوهم. وكانت الوسيلة المحببة لاستدراجهم والاستيلاء على ما لديهم من ذهب هي خطف أولادهم وابتزازهم. ليس ذلك فحسب، وإنما أصبح «الحجاج» بعد استقوائهم يشنون عليهم الغارات التي استهدفت ترويع الهنود وقتل أكبر عدد منهم. كما استهدفت الاستيلاء على ماشيتهم وحصادهم بعد حرق حقولهم. بل إنهم كانوا يتنافسون على قتل الهنود والتمثيل بجثثهم واقتناء فروات رءوسهم. ودفعهم النهم إلى نشر الأوبئة والجراثيم بينهم، وكان الفتى سكوانتو أحد ضحاياهم بعد إصابته بمرض الجدري.

لم تمض ستون سنة على ولادة الأسطورة الأمريكية التي تمثلت في حفاوة الهنود الحمر بضيوفهم وإشراكهم معهم في الاحتفال بعيد الحصاد حتى قضى «الحجاج» وسلالتهم على هنود البيكو عبر حروب تدمير منظمة شملت القرى والمدن والحقول وكل ما يعد ضروريا لاستمرار الحياة. وبعد إبادتهم أقاموا فوق جثثهم وأشلائهم مجتمعهم الجديد وفي ظله تم تزوير الرواية التاريخية بحيث أصبحت لحظة حفاوة الهنود بالغزاة في عيد الحصاد هي عيد الشكر.

ما ذكرته بمثابة اختزال شديد لما أورده مؤلف كتاب «أمريكا والإبادة الجماعية» الأستاذ منير العكش السوري الأصل والمقيم بالولايات المتحدة يدرس الإنسانيات في جامعاتها، وقد بذل جهدا هائلا في تحري جذور فاجعة الهنود الحمر التي انتهت بإبادتهم وتشويه تاريخهم. وقد أصدر ثلاثة كتب نفيسة حول الموضوع.

بقي أن تعلم أن مناهج التعليم الأمريكي تجاهلت كل هذه الخلفية وادعت أن المهاجرين الإنجليز بعدما استقروا في موطنهم الجديد هم الذين وجهوا الدعوة إلى الهنود للاحتفال بالنعمة التي منّ بها الله عليهم واعتبروا ذلك «عيدا للشكر» الذي صار بمضي الزمن عيدا وطنيا ودينيا في الوقت ذاته.