أحمد برقاوي

 دخل العالم المسمى بالثالث أيام الحرب الباردة عالم العولمة دون أن تكون القاعدة الاقتصادية السياسية لهذا الدخول جاهزة لذلك، فكان لابد أن تتحول إلى عالم مليء بالتناقضات، فانهزم المشروع القومي، والذي أسس لمرحلة الفاعلية في مرحلة ما، لتجد الشعوب نفسها، التي ثارت ضد الاستعمار وعملت على فك التبعية، بلا مشروع، هذه الواقعة ذات تأثير عاصف ومدمر في الحياة السياسية.

كان المشروع الوطني يبرز قيام السلطة الوطنية، مهما كان نموذجها اللينيني الستاليني قاسياً. وبالوقت نفسه كان يخلق التناقض بين نزعات البشر نحو التحرر والسلطة التابعة بكل معايير التبعية.

ومع انهزام المشروع، فقدت السلطة وظيفتها الوطنية، وتحولت إلى أداة قمع رهيبة، وفساد مطلق، وهذا ما ولّد ظاهرتين بارزتين لدى الأطراف، الأولى الظاهرة الأصولية، والثانية ظاهرة الدعوة إلى الديمقراطية. فقد شهد العالم الإسلامي قاطبة تحول الإسلام السياسي إلى حركة مناهضة لعولمة الرأسمالية، ومناهضة للنظم السياسية القائمة انطلاقاً من فكرة الحاكمية ذات اللباس المتعدد.

فالإسلام كان حاضراً دائماً في حياة الشعوب الإسلامية: عادات وتقاليد وقيم وطقوس وحركات سياسية، لكن المشروع الوطني القائم على أفكار الاستقلال والتنمية والتقدم والتحرر من الغرب والعدالة كان قادراً على إنتاج عصبية وطنية حداثية بالأساس، وبانهزام المشروع الوطني تحولت العصبية هذه إلى عصبية أصولية لدى فئات كبيرة في مصر وبلاد الشام والمغرب العربي وبخاصة لدى أولئك الذين لا يستطيعون تلبية الحاجات الرأسمالية المتعولمة، وصار الغرب الذي نظر إليه غرباً معادياً للاستقلال وللوطنية، عدواً للإسلام.

في المشروع الوطني كانت الحداثة الغربية حاضرة بهذا الشكل أو ذاك، من خلال التمييز بين السياسة الغربية وتقدم الغرب، أما في الإسلام السياسي فصار الغرب عدواً مطلقاً لا للشعوب بل للإسلام بالذات. وتحول الصراع من زاوية إسلامية أصولية إلى صراع حضارتين: إسلام في مواجهة غرب ومتغربين، وكان بن لادن ذروة رد الفعل الأصولي السياسي على العولمة الرأسمالية للعالم، وبالمقابل انتشرت لدى جزء من سكان الأطراف فكرة الديمقراطية كسبيل لتجاوز السلطات التي كرست النظام السياسي الديكتاتوري الفاسد.

إن الديمقراطية بعودتها إلى واجهة الأمل السياسي إنما هي عودة لمسألة السير على طريق الغرب، ولكن هذه الحركة في صورة خالية من المضمون الاجتماعي، أي خالية من فكرة العدالة الاجتماعية. لقد انزوت من الخطاب: الطبقة والصراع الطبقي والاستغلال الإمبريالي وما شابه ذلك من مفردات الماضي القريب.

 إن البلدان الفاشلة وهي تعاني من جملة مشكلات تبدو عصية على الحل وصلت إلى مأزق، وكمحاولة للخروج من هذا المأزق ظهرت الاضطرابات والثورات التي عبرت عن كل تناقضات المأزق. تناقضات أخرجت كل المكبوت السياسي والأيديولوجي وبخاصة بعد تحول إيران إلى دولة راعية لحركات طائفية في العراق ولبنان وسوريا واليمن، ومحاولتها تحطيم الدول في هذه البلاد إلى غير رجعة.

إن على الوعي السياسي الفكري للنخبتين الوطنيتين العربيتين النخبة السياسية والنخبة الفكرية أن تعيد إنتاج وحدة المصالح العربية في مشروع وطني قومي متميز بأعلى درجات الواقعية والفهم العميق لحركة الواقع العربي ولحركة العالم.