الياس حرفوش

هي مجرد صفحة من التاريخ تطوى بوفاة فيديل كاسترو. لا أكثر ولا أقل. دور الرجل في كوبا تراجع، كما اختفى أثره على مسرح العالم. والديبلوماسيون الذين يعرفون هافانا ويعرفون الأثر الباقي من كاسترو فيها يقولون أن الكوبيين دفنوا كاسترو منذ فترة طويلة قبل أن يموت، ونظراتهم اليوم تتطلع إلى المستقبل، لا إلى الماضي.

قبل رحيل فيديل كاسترو، رحل النظام السوفياتي الذي ظل الزعيم الكوبي يتكئ على أيديولوجيته الماركسية في مواجهته الطويلة مع واشنطن. كما رحلت كتلة عدم الانحياز التي انحاز كاسترو إليها لمحاولة خلق زعامة في دول العالم الثالث، «مستقلة» عن موسكو، وإن تحت مظلتها. وقبل رحيله بسنوات كانت كوبا ذاتها قد بدأت تتغير. صار تحسين ظروف المعيشة وتنويع مصادر الاقتصاد، والانفتاح على ما يحصل في العالم، أكثر مدعاة للولاء من السير خلف الشعارات الأيديولوجية. هذه الفرص الجديدة هي التي يقودها اليوم راوول كاسترو، شقيق فيديل، وابن الثامنة والثمانين. زمن عائلة كاسترو وزمن كوبا في ظل عائلة كاسترو على شفير النهايات.

لو أتيح لفيديل أن يعيش شهراً إضافياً لكان احتفل في نهاية هذه السنة بالذكرى الثامنة والخمسين لانتصار ثورته (مع ذلك الرمز الثوري الآخر تشي غيفارا) على الديكتاتور باتيستا في مطلع عام 1959 ودخوله هافانا دخول الفاتحين. 58 سنة وضعت كوبا في قلب الصراع الأميركي - السوفياتي، أو الإمبريالي - الشيوعي، بلغة كاسترو. كان لكوبا وضع خاص، مختلف ومتميز عن دول أوروبا الشرقية التي كانت تدور في فلك موسكو. فموقعها عند خاصرة الولايات المتحدة سمح للاتحاد السوفياتي باستخدامها لإثارة المتاعب للجارة الشمالية. فيما حاولت هذه الأخيرة بالحصار والتهديد ومحاولات الاغتيال المتكررة، القضاء على كاسترو ومشروعه الثوري لمنعه من التمدد إلى الجوار. وكاد الموقع الذي فرضته الجغرافيا على كوبا أن يشعل حرباً نووية في مطلع الستينات من القرن الماضي لو لم يتم تفادي الكارثة في اللحظة الأخيرة، بحنكة جون كينيدي ودهاء نيكيتا خروتشوف الذي حصل من الأميركيين على تعهد بالامتناع عن تكرار غزو كوبا كما فعلوا في عملية «خليج الخنازير». لكن حل أزمة الصواريخ الكوبية كان بالغ الكلفة على فيديل كاسترو، على رغم مشاعر الانتصار، إذ وضع مصير نظامه ومصير الثورة في يد موسكو، فأصبحت كوبا مجرد ورقة في صراع المصالح بين القطبين الدوليين.

حاول كاسترو أن يعطي نظامه وشعبه انطباعاً مختلفاً بأنه ليس مجرد دمية سوفياتية. خلق مزيجاً من السياسات الاشتراكية والمشاعر القومية ليعزز ولاء الكوبيين ويضمن خنوعهم وقبولهم بإجراءت التقشف الصارمة التي فرضها عليهم. لكن هذا الولاء بقي غير مضمون، فكانت زنزانات السجون مصير المحتجّين، بينما هرب من استطاع إلى ميامي عند الشاطئ المقابل من المحيط، ليعيش هناك حلم العودة إلى كوبا أخرى.

في محاولاته منح انطباع بالاستقلالية عن هيمنة موسكو، صار كاسترو قطباً في حركة عدم الانحياز، ومدّ نفوذه إلى عدد من الدول الأفريقية، لكن التدخل في الخارج زاد من الأعباء والمتاعب الاقتصادية في الداخل، وكانت الضربة القاضية في أواخر الثمانينات بصعود ميخائيل غورباتشوف إلى الحكم وإطلاق سياسات «الغلازنوست» و «البريسترويكا» التي قضت على المشروع السوفياتي وبالتالي على الأحلاف، في أوروبا الشرقية وحول العالم، وكانت كوبا في طليعة المتضررين. غير أن فيديل كاسترو عرف مرة أخرى كيف يستفيد من موقع كوبا ومن ولاء المشاعر الوطنية، ووجد فرصته هذه المرة في هوغو تشافيز، الذي اعتبره «ابنه الروحي»، وصار نفط فنزويلا بديلاً لانقطاع المساعدات من موسكو، التي كانت تبادل النفط الروسي بالسكّر الكوبي، بعدما تعهد غورباتشوف للأميركيين بوقف المساعدات إلى كوبا في مقابل الدعم الاقتصادي للقيادة السوفياتية الجديدة.

فيديل كاسترو «رمز لعصر في تاريخ العالم الحديث»، مثلما قال عنه فلاديمير بوتين بالأمس. لكنه عصر انقضى. وإذ يحاول بوتين استعادة الزعامة الروسية اليوم، فهو إنما يفعل من خلال إحياء العصبية القومية التي حاول كاسترو أن يزاوج بينها وبين الماركسية، فماتت هذه قبله، فيما القوميات تستعيد حيويتها مع غيابه.