مجاهد عبدالمتعالي

لو أن الإسلاميين قرؤوا مالك بن نبي وتشربوا أفكاره كقراءتهم لسيد قطب وامتزاج أفكاره بخلايا أدمغتهم، لاختلف المشهد الإسلامي تماماً، ولتخلصوا من أزماتهم وعثراتهم الدائمة

(مالك بن نبي) يرى كثيرٌ من الإسلاميين أنه منهم وفيهم، ويستدعونه بالتعريف كمفكر إسلامي كأنما هو خريج كتاتيبهم، لأنه كتب عن الاستعمار والنهضة، ولأنهم يعتبرون أنفسهم حراس الهوية ضد أي محاولة استعمارية حسية أو معنوية، فقد زعموا ارتباطهم بمخرجات مالك بن نبي الفكرية، ولكن عند قراءة كتابه (الصراع الفكري في البلاد المستعمرة) نكتشف كيف أن مالك بن نبي يعري الإسلاميين تماماً، ويكشف أن كل ما يختلقونه من صراعات في الكتب والخطب باسم الحفاظ على الهوية وباسم محاربة التغريب هو في حقيقته خدمة خالصة للاستعمار، فالمظاهر المدنية للدولة الحديثة تتحول تحت أيديهم إلى نوع من التغريب تجب محاربته لتبقى دولتهم مثاراً للسخرية والتندر كمظهر من مظاهر التخلف في العالم، ولا يبالون بهذا ما دام فيه مناكفة للسلطة السياسية، أو لخصومهم من التيارات الفكرية الأخرى.
ولادة باكستان وانفصالها عن الهند في نظر مالك بن نبي يعتبر كارثة لأنه في حقيقته ليس رغبة في الازدهار والفاعلية الحضارية بقدر ما هو في حقيقته رغبة استعمارية في تقسيم الهند الكبرى، واستجاب لها المسلمون تحت عنوان الحيلولة دون الاضطهاد الطائفي، رغم أننا نجد كثيرا من الهنود المسلمين حتى هذه اللحظة فخورين بجنسيتهم الهندية، وينظرون إلى باكستان كدولة أخرى مدركين الفرق بين القيمة الوطنية لبلدهم الهند، وبين التعصب الطائفي الذي تحاوله الدول في مناكفة بعضها سياسياً.
ومن المفارقات عند مالك بن نبي (المحسوب على الإسلاميين كما يزعمون) أنه في كتابه المشار إليه يوضح أن مشاريع الدفاع عن الإسلام تريح الاستعمار، ولهذا يقول (ما من خائن يدسه الاستعمار في الجبهة التي تكافح فيها الشعوب المستعمرة إلا وكلمة استعمار هي التي تفتح له أبواباً مغلقة في عواطف الجماهير... وبهذا وغيره يتمكن الاستعمار من وضع الطابع البدائي على سياسة البلاد المستعمرة)، وضعوا خطاً تحت عبارة (الطابع البدائي على سياسة البلاد المستعمرة)، وأخيرا يشير في نهاية الكتاب إلى مواقف من يزعمون أنه ينتمي إليهم من الإسلاميين، حيث أوضح مواقف الطلبة الإسلاميين من كتبه ومحاولة تشويهها.
يشير مالك بن نبي في صفحات الكتاب الأولى إلى أن هناك حربا ضد الفكرة المجردة عبر طريقين: طرح شعارات سياسية للنخبة، وعبر لغة الدين، فتستخدم لغة الفكرة المتجسدة في مستوى الطبقة المثقفة، فتقدم للمثقفين شعارات سياسية تسد منافذ إدراكهم إزاء الفكرة المجردة، وفي مستوى آخر تراه يفضل لغة الدين لأنها تسد بصورة محكمة منافذ الوعي إزاء الفكرة في هذا المستوى، وكلنا يتذكر الليبرالية كفكرة مجردة كيف تم تحويلها إلى (موشومة) في نظر النخبة لتسد منافذ الإدراك إزاء فكرة مجردة قابلة للتداول والتبيئة، ومثلها حصل لفكرة (الحداثة) على المستوى النخبوي ومستوى العموم الديني.
وأخيراً فإن مالك بن نبي أوضح مفارقة عجيبة في أن مشاريع الدفاع عن الإسلام تريح الاستعمار، ويرى أنها من خططه وقد استخدم مفردة (المنديل الأحمر) يضعها الاستعمار بيد من يزعم الدفاع عن الإسلام ليهزها أمام الجماهير لتركض غاضبة غافلة عن قضاياها الأساسية في سبيل النهضة الحضارية لحياة تعترف بالكرامة والحرية والعدل، فتنشغل بمطاردة هذا المنديل الأحمر الذي أوحى به المستعمر، مع حرص المستعمر على رفع حساسية الفرد ضد قضايا هامشية تشغله عن قضاياه الأساسية والمصيرية، والتي لها الأثر البعيد على مستقبل حياته وأبنائه ونهضة أمته، ومازلت أذكر قضايا الجوال ومنكرات البلوتوث وحرمة التلفاز وتحريم الدش، وكأنما هذه القضايا هي أم القضايا التي انحشرت حتى النخبة الثقافية في تسويغها لتستمر الحياة.
واقعنا العربي الحالي يكاد يجزم فيه المرء بأن الاستعمار عاد عن طريق اللحية والعمامة لتقسيم وطننا العربي، عفواً لتفتيت الوطن العربي، فالتقسيم حصل بعد الحرب العالمية الثانية، أما التفتيت فهو ما نراه باسم الدين والطائفة، وأبطال المشهد هم الإسلاميون الذين لم يستوعبوا فكرة الدولة الحديثة، والسبب ليس فيهم بقدر ما هو في القوى الكمبرادورية في الوطن العربي التي عاشت حياتها المافيوزية في كرسي الحكم دون العمل على تحقيق معادلة التنمية البشرية وفق معطى المشاركة في كل الحقوق (السياسية والاقتصادية والاجتماعية) التي أقرتها الأمم المتحدة على جميع الدول المنتسبة إليها بحق مواطنيها، لترتد على الدولة واجبات يؤديها المواطن تجاه وطنه.
ختاماً لو أنّ الإسلاميين قرؤوا مالك بن نبي وتشربوا أفكاره كقراءتهم لسيد قطب وامتزاج أفكاره بخلايا أدمغتهم، لاختلف المشهد الإسلامي تماماً، ولتخلصوا من أزماتهم وعثراتهم الدائمة، ولارتقى الحوار مع الإسلاميين من قضايا الهامش الخاصة بالمنديل الأحمر، إلى قضايا الوطن والمواطن لحياة شعب يسمو إلى الحرية والكرامة والعدل، دون مماحكات العقل المؤدلج بتأصيلات (الجاهلية) و(الحاكمية) و(الولاء والبراء)، فرغم تجاوز الزمن لأطروحات مالك بن نبي إلا أنها مكسب كبير لعقول الإسلاميين ليتمكنوا من تجاوز فئويتهم وتحزباتهم وتعصبهم الأعمى في فهم سؤال الحضارة وفق فهم ديمقراطي، يناقش ولا يكفر، يحاور ولا يحاكم، ميدانه القلم والكتاب، لا محاكم التفتيش وحرق الكتب.