عرفان نظام الدين

لا شك في أن كل الأيام والشهور والسنين في عمر العرب مرت بمراحل حاسمة وخطيرة عبر التاريخ، إلا أنه يمكن القول إن الأشهر القليلة المقبلة مصيرية على كل المستويات على صعيد العالم والمنطقة.

فالفترة الانتقالية المتبقية لموعد تسلم مقاليد الأمور في الولايات المتحدة والعالم في 20 كانون الثاني (يناير) 2017 تعد مرحلة انتظار وترقب وقلق وشكوك في السياسة الأميركية الجديدة وتأثيرها في الأوضاع الدولية ومستقبل العلاقات الروسية - الأميركية، في ظل الغزل المتبادل بين الرئيس المنتخب المثير للجدل دونالد ترامب والقيصر الروسي فلاديمير بوتين.

وفي حين يتوقع بعضهم تجميد كل الملفات، يذهب آخرون إلى توقع إقدام الرئيس باراك أوباما في آخر شهرين من عهده على اتخاذ خطوات مهمة تتعلق بالسياسة الخارجية، لا سيما في سورية، نظراً إلى ازدياد حدة التوتر بعد التحذير الأميركي الأوروبي لروسيا وسورية بوقف الغارات والقصف على حلب وجوارها.

ورغم استبعاد المحللين إقدام أوباما على هذه الخطوات وتشكيكهم بقدراته، فإن هناك من يتوقع موافقته على شن ضربات جوية وصاروخية خاطفة بهدف قلب الموازين وفرض أمر واقع على ترامب، وتوجيه لكمة إلى الرئيس الروسي، والخروج من البيت الأبيض بعمل يسجل له.

إلا أن الأخطر من هذا السيناريو، التناقضات الفاضحة بين مواقف الرئيس الجديد التي أطلقها خلال حملته الانتخابية وبعدها وبين قدرته على تنفيذ ما وعد به وسط تساؤلات عن كيفية تنفيذه الوعود، مستعيناً بصقور الحزب الجمهوري والمحافظين الجدد الذين دفعوا الرئيس السابق جورج بوش الابن إلى شن مغامرات مدمرة بغزو العراق وأفغانستان والمساهمة في مؤامرة تفتيت الدول العربية تحت ستار مزاعم «الشرق الأوسط الجديد» المصنوع إسرائيلياً، وتحول «القاعدة» الذي تبنى تفجيرات نيويورك وواشنطن إلى قواعد إرهابية وصلت ذروتها مع تنظيم «داعش» الذي يُعد بضاعة روجت لها جهات مشبوهة كبضاعة ردت إلينا.

فبالنسبة إلى سورية وحربها الأكثر تعقيداً، تُطرح تساؤلات محيّرة عن كيفية نجاح ترامب في التوفيق بين غزله لروسيا ووعوده بعلاقات جيدة معها وملفات الأزمات المستعصية من أوروبا الشرقية إلى أوكرانيا، وصولاً إلى سورية والانغماس الروسي في حربها. وكيف يوفّق بين هذا الغزل وإصراره على معاداة إيران وإلغاء الاتفاق على ملفها النووي والحد من دورها في الأزمات المتراكمة من اليمن إلى الخليج والعراق وسورية ولبنان؟ وكيف يتزامن التقارب مع بوتين والحد من هذا الدور الإيراني العامل جنباً إلى جنب مع القوات الروسية؟ وهذا الأمر ينطبق على «حزب الله» وقتاله في سورية وإمكان المواجهة مع روسيا في حال نجاح التقارب الروسي - الأميركي؟

ملفات عدة معقدة وصورة مشوشة وبانوراما ضبابية لكل ما يجرى، إذ لا يمكن لأي إنسان أن يتصور كيف سيتم الجمع بين كل هذه التناقضات وفك العقد وحل الكلمات المتقاطعة.

كل هذا في طرف والتعيينات الأخيرة في طرف آخر، لا سيما أن أعضاء إدارته الجديدة بمعظمهم هم من الصقور الذين يدعون علناً إلى مواجهة إيران و «حزب الله» مع غطاء قديم جديد، وهو محاربة الإرهاب والقضاء على «داعش»، ما لا يمكن تفسيره إلا بالقول إن ترامب سيكون في وادٍ والإدارة في وادٍ آخر متصلب مع القوى الخفية الحاكمة، وبينها اللوبي الصهيوني.

فإسرائيل هي المستفيد الوحيد من سياسة ترامب الذي قال إنها ستبدأ بنقل مقر السفارة الأميركية إلى القدس العربية المحتلة والاعتراف بإسرائيل دولة يهودية، مع إهمال حقوق الشعب الفلسطيني وعدم الإشارة، ولو بكلمات قليلة إلى القرارات الدولية ومعاهدة السلام وحل الدولتين، متغاضياً عن إرهاب الدولة وانتهاكات إسرائيل لحقوق الإنسان وقتلها الأطفال والمدنيين الأبرياء.

في مقابل هذا التخبط الأميركي وانتظار ما ستكون عليه السياسة الجديدة، يسابق الرئيس الروسي الزمن لتحقيق أكبر مقدار من المكاسب وقضم مزيد من المناطق بعد تحقيق حلم القياصرة الدائم بالوصول إلى المياه الدافئة وإقامة قواعد جوية وبحرية على الساحل السوري للبحر الأبيض المتوسط والحصول على عقود استخراج النفط والغاز، إضافة إلى صفقات أسلحة تمتد إلى العراق وإيران.

فبعد ضم القرم وتهديد أوكرانيا، مدّ نفوذه إلى الشرق الأوسط للالتفاف على ما يعتقده تهديد حلف شمال الأطلسي والغرب للأمن القومي الروسي عبر مشاريع الدرع الصاروخية وغيرها، لينتهي الأمر قريباً على المساومة والمقايضة مع الولايات المتحدة ورسم حدود جديدة تحل مكان اتفاقات «سايكس - بيكو» البريطانية - الفرنسية.

ومرحلة الشهرين ستكون حاسمة بالنسبة إلى العلاقات بعد وصولها إلى حافة الانفجار خلال عهد أوباما، على أمل أن يصدق ترامب في وعوده بالتنسيق والتفاهم مع بوتين وإيجاد حلول مشتركة للأزمات والحروب لإزالة الأخطار والتخفيف من شكوك الروس واقتسام الغنائم، خصوصاً أن ترامب أعرب عن جشع وحشي بتكرار جملة «سنأخذ نفط العراق» وابتزاز دول الخليج بالمطالبة بدفع بلايين الدولارات. فإذا تحقق التقارب، لا بد من أن تمتد آثاره على معظم قضايا المنطقة وفي مقدمها الحرب السورية وحروب اليمن والعراق وليبيا وحسم المعركة ضد «داعش».

على الجانب الآخر، تشهد الدول الأوروبية تحولات خطيرة تسهم في قلب الموازين وتعريض العالم لمواجهات وأزمات عرقية وعنصرية ستدفع ثمنها الدول العربية والجاليات العربية والإسلامية التي يقدر عددها بحوالى 40 مليون إنسان إثر انتشار آفة «الإسلاموفوبيا»، أي العداء للإسلام تحت تسمية الخوف من الإسلام لبث روح الكراهية ضد المسلمين.

فقد شهدت السنوات الماضية تصاعد نفوذ التيارات اليمينية والعنصرية المتطرفة، ليس بالتظاهرات والشعارات وحسب، بل بكسب تأييد الرأي العام للوصول إلى السلطة، كما حدث في بريطانيا عندما نجح التجييش العنصري والمعادي للأجانب عموماً في فرض الانسحاب من الاتحاد الأوروبي بعد الاستفتاء المثير للجدل، رغم تراجع الكثيرين لاكتشافهم أن هذا القرار سيضر بالاقتصاد البريطاني وسيزيد من قوة التيارات اليمينية ويفرض إجراءات قاسية ضد الجاليات ومعها ملايين المقيمين من دول أوروبا الشرقية.

وفي فرنسا، هناك سباق محموم بين القوى السياسية لكسب الرهان على منع وقوع فرنسا في فخ العنصرية خلال الانتخابات الرئاسية المقررة في نيسان (أبريل) وأيار (مايو) مع ازدياد المخاوف من فوز زعيمة «الجبهة القومية» والتيار العنصري مارين لوبان بعد تقدمها في استطلاعات الرأي في وجه المرشحين من اليمين واليمين الديغولي والاشتراكيين المنقسمين على أنفسهم والمتورطين في مشاكل وفضائح وانخفاض شعبيتهم.

أما في ألمانيا، فتتعرض المستشارة أنغيلا مركل لضغوط مكثفة من العنصريين والشعبويين، ما يجعلها تخوض معركة شرسة في الانتخابات المقررة العام المقبل مع توقع فوزها فيها، ولكن بزخم أقل وشعبية أقل من السابق بسبب سماحها بدخول مئات الآلاف من اللاجئين السوريين والأجانب، مع عدم إغفال حقيقة نمو التيارات العنصرية والنازية ضد السوريين وجميع الأجانب. فهذه التيارات بدأت الخروج من السرية إلى العلن في دول عدة، ومنها دول في أوروبا الشرقية التي كانت لعقود من الزمان مؤيدة أو متحالفة مع العرب. ومهما كانت الأسباب وتعددت المبررات، فإنه لا يمكن إغفال دور العرب والمسلمين على المستويين الشعبي والرسمي في التقصير الفاضح في الدفاع عن قضاياهم وعدم الاهتمام بالجاليات، على رغم تنامي دورها ووجودها في مختلف الساحات الرسمية والعلمية والشعبية.

في المقابل، يمكن التأكيد أن الإرهاب والتطرف لعبا دوراً بارزاً في تشويه صورة الإسلام وتعريض حياة الجاليات ومصالحها للخطر نتيجة الممارسات المستنكرة ومظاهر الذبح والإعدامات الوحشية وقتل الأبرياء على امتداد العالم وإعطاء الحاقدين والمغرضين ذرائع لتنفيذ مآربهم.

في الختام، لا بد من مطالبة الولايات المتحدة في «العهد الترامبي» بالتخلي عن العنجهية والاستفزاز لأن أخطار تنفيذ السياسات والوعود الانتخابية ستضر بها وتهدد مصالحها وتشعل نيران فتن وحرائق لا يمكن التنبؤ بتبعاتها. كما أن عليها أن تحافظ على علاقاتها التاريخية مع السعودية ودول الخليج ومع الدول العربية والإسلامية الأخرى وسحب القوانين المستفزة المغرضة بزعم مكافحة الإرهاب مثل «جاستا».

كما أن على واشنطن في العهد الجديد أن تتخلى عن الانحياز الكامل لإسرائيل وتسعى إلى حصول الشعب الفلسطيني على حقوقه المشروعة لأن تنفيذ ما وعد به ترامب في حملته الانتخابية سيتسبب في مواجهات وموجات عنف ستدفع الولايات المتحدة قبل غيرها أثمانها الفادحة.

لكن هذا كله لا يمكن أن يتحقق في حال استمرار الفرقة والتشرذم والعناد في العالم العربي، لأن من العبث انتظار الترياق من الولايات المتحدة وغيرها، ما دام أهل البيت بطبول الحروب ضاربين. كما أن الرئيس الأميركي الجديد يخطئ كثيراً إن ظن أن سياسته المعلنة تجاه العرب ستمر بسهولة، لأنه سينتهي إلى الفشل ويؤدي إلى دخول الولايات المتحدة في مشاكل كثيرة هي في غنى عنها لأن الجهل عند القائد مصيبة، لكن المصيبة تكون أعظم عندما يدّعي المعرفة والعلم، ويتسلم زمام أمور دولة عظمى تؤثر سياساتها في دول العالم، ويجد من يصفق له ويدعم توجهاته المدمرة.