بكر عويضة

 بناء جدار حول مخيم عين الحلوة في صيدا، أحدث أنباء الجدران المتداولة في بورصة الأخبار، فهل يكون آخرها؟ الأرجح أن الإجابة كلا، إذ يبدو أن العالم، الذي هلّل لهدم حائط برلين، مقبل على عصر تشييد جُدُر، بدءًا بسور الفصل ما بين الفلسطينيين والإسرائيليين، مرورًا بحديث يتردد أحيانًا بشأن استبدال أنفاق سيناء بسور يعزل قطاع غزة عن مصر، وليس انتهاءً بجدار دونالد ترامب على حدود أميركا مع المكسيك.
لماذا، عوض المضي قدمًا مع انفتاح عالم «القرية الصغيرة» على بعضه بعضًا، تصر أطراف عدة على السير إلى الخلف، إنْ في شأن الممارسة اليومية للحياة، تنظيرًا وتطبيقًا، أو بما يعني الشأن العام، كما هو الحال مع تشييد جدران الفصل بين البشر؟ سوف يُقال لمن يسأل، إنه الأمن. صحيح، وهو ذريعة معتبرة، فأمن الشعوب أمر يجوز - وفق مدارس سياسية عدة، شرقًا وغربًا - أن يتقدم على غيره، بما في ذلك حرية الناس، تقدمها، مدارسها، مشافيها، وجوانب رفاهيتها كافة. إنما في السياق ذاته، يصحّ القول أيضًا إن تلك حالة غير عادية تفرضها في العادة ظروف طارئة، كحالة الحرب الضروس، مثلاً، ومن ثم يصعب القبول بذريعة الأمن مبررًا لدحض أي اعتراض، أو نقاش، أو تساؤل بشأن جدوى إجراء ما، مثل بناء جُدر العزل بين البشر.
وإذ الشيء يُذكّر بأشياء، وجدتني أتساءل ماذا لو جرى فرض تقسيم فلسطين بالقوة بين الفلسطينيين والإسرائيليين قبل تسعة وستين عامًا؟ أقصد هنا قوة منطق الإقناع المسنودة بقوات عسكرية محايدة تتبع الدول العظمى. الحق أنني حاولت تجنّب ذكر القرار (181) الصادر بتاريخ 29 - 11 - 1947 لكني لم أستطع. وأنَّى لي إغفال الموضوع بينما أرى العالم يسير، بحمق شديد، نحو مزيد من أشكال التقسيم والانفصال؟ سوف أضع جانبًا قصة انفصال بريطانيا عن الاتحاد الأوروبي، جدار أميركا - المكسيك، معركة كسر العظام المقبلة في فرنسا بين فرنسوا فيون ومارين لوبان، إذ الأولى التساؤل عمّا حلّ أو قد يحلّ بالعالم العربي من أشكال التقسيم والفصل، أليس واضحًا ما انتهى إليه عراق ما قبل خطيئة غزو الكويت؟ إلى أين تمضي سوريا، وكيف هو وضع ليبيا ما بعد ألغاز «الربيع العربي»؟ ما الذي حل بجنوب السودان بعدما انفصل عن الشمال؟ ثم هل يستعيد لبنان عافيته بعد هُزال سنوات طحن أهله بفتن من كل صوب ولون؟
كلا، قبل القفز إلى أي استنتاج مُسبق، لست هنا بصدد الاعتراض على رفض قرار تقسيم فلسطين. ذلك الموقف من جانب كل عواصم العرب، تساندهم دول إسلامية، ومعهم كوبا واليونان والهند، كان موقفًا منسجمًا مع منهاج ذلك الزمن، ومستجيبًا لمنطق التمسك بحقوق ثابتة لأصحاب الأرض الشرعيين، وهو ما يفسّر لماذا هرع الساسة الإسرائيليون زمنذاك يمارسون ضغوط الإغراء مع طرف، والإكراه مع آخر، لأجل التصويت لصالح القرار، حتى أن جيمس فورستال، وزير الدفاع الأميركي آنذاك، ضمَّن مذكراته وصفًا لما جرى بقوله: «إن الطرق المستخدمة للضغط ولإكراه الأمم الأخرى في نطاق الأمم المتحدة كانت فضيحة».
الواقع أن موقف الرفض العربي لقرار 1947، صحيح تمامًا، وفي الآن نفسه صحيح كذلك الموقف الفلسطيني الحاصل بعد واحد وأربعين عامًا، عندما قرر المجلس الوطني بالجزائر (15 - 11 - 1988) قبول القرار (181) مع الاحتفاظ بحق تحفظ المظلوم على ما لحق به من ظلم. لقد شاءت الأقدار أن أشهد تلك اللحظة التاريخية بالجزائر، ورأيت كيف راح بعض الساسة الفلسطينيين يتصرفون بفرح غامر وبأسلوب يثير العجب، كأنما الأرض تحررت والدولة قامت بالفعل، بينما المنطق يقول إن الطريق صعب وإنه يتطلب إرساء أسس قوية للبناء على ما تحقق.
في هذا السياق، يجوز التساؤل، لماذا أصيب الجسم السياسي المسؤول عن مستقبل الشعب الفلسطيني بعجز حال دون الاستمرار في البناء الإيجابي، رغم معوقات كان واضحًا لكل ذي عقل أن دهاة ساسة إسرائيل يتفننون في نصب فخاخها، فيستجيب لها، ويقع في شراكها، سياسيو القضية وزعماء تنظيماتها؟
لعل فهم أسباب ذلك العجز يعين على عدم استمرار الحال الفلسطيني على ما هو عليه. ومع ضرورة الاعتراض على نهوض جدار مخيم عين الحلوة، يظل الأجدى أن يحصل ما يزيل الجدران المشيدة داخل صدور زعماء الفصائل الفلسطينية، بدل أن تزداد صلابة، وتتمدد مسافات الفصل بين الفلسطينيين أنفسهم، ذلك أن أقفال الصد تختم القلوب، وتوصد أبواب الحلول. ها أنا ذا أختم ما أكتب، فيتراءى لي «حنظلة» ناجي العلي يتسلق جدار المخيم شاهرًا لسان الغضب المعهود، وسوف أستأذن فأضيف من عندي: متى يفيق كل من يغط في سبات الانقسام العميق؟