مَن المسؤول عن الاستمرار في تعطيل ولادة الحكومة... ومَن المستفيد؟

ابراهيم بيرم

الحكومة العتيدة ستبصر النور بالتأكيد، طال الوقت بعض الشيء أم قصُر. لكن السؤال المحوري الذي بدأت رحلة البحث عنه في بعض الاوساط هو: من الذي سيخرج منتصر الارادة في كلا الحالين؟ ولماذا تبددت سريعا الاجواء التي واكبت عملية انتخاب العماد ميشال عون رئيساً والتي اوحت ان عملية التأليف ستكون في زمن قياسي غير مسبوق في تاريخ استيلاد الحكومات اللبنانية؟

يحلو للبعض ان يطرح السؤال الاشكالي عينه بشكل آخر وربما بشكل معاكس على النحو الآتي: هل يمكن الذين خرجوا من عملية انتخاب الرئيس في نهاية الشهر الماضي حاملين شعور الخسران او شعور الذين مرت مياه انضاج طبخة الرئاسة الاولى من تحت اقدامهم وهم لا يعلمون، واتضح لهم لاحقا ان الامر انطوى على مكمن سياسي محكم لهم ليدركوا متأخرين ان الامور الكبيرة بدأت تُنسج على ايدي غيرهم، فوجدوا في عملية تأليف الحكومة فرصة الثأر ومحطة لاسترداد ما فقدوه، او على الاقل ليثبتوا لمن يعنيهم الامر انهم ما زالوا ملوك اللعبة، وان كل ما أُشيع وأُذيع من ان زمنهم قد تولى هو كلام بكلام بدليل انهم ما برحوا قادرين على تعطيل التركيبة الحكومية لزمن غير محدود، ويطلقون قفاز التحدي في وجه الجميع قائلين لهم: ألّفوا الحكومة من دوننا ان استطعتم.


الحظ حالف هؤلاء في امر اساسي هو ان الطرفين الآخرين المعنيين باستيلاد الحكومة العتيدة، اي رئيس الجمهورية والرئيس المكلف ومن يدور في فلكهما سياسيا، تسرّعوا في تحديد مواعيد قياسية لإبصار الحكومة النور، وبالتحديد لحظة راهن هؤلاء على ولادة الحكومة قبيل ذكرى الاستقلال وذلك انطلاقا من الاعتبارات الآتية:
- ان الحكومة تحمل في طياتها كل صفات الحكومة الانتقالية القصيرة العمر نسبيا، خصوصا ان مهمتها تنحصر في الاشراف على الانتخابات النيابية الوشيكة الحلول.


- ان كل الوان الطيف السياسي من دون استثناء مدعوون للمشاركة في هذه الحكومة، وبالتالي من مصلحة الجميع تأمين تقليعة قوية للعهد الجديد من خلال تأمين ولادة غير قيصرية للحكومة الاولى للعهد.
- ثمة اعتقاد سرى لبعض الوقت فحواه ان التفاهم الذي حضن عملية انتخاب الرئيس بعد طول شغور هو تفاهم ممتد الى ما بعد ولوج الرئيس الجديد قصر بعبدا.


وبناء عليه، اقامت شريحة واسعة من الرأي العام على قناعة بأن امر التأليف سيكون اسلس من اي تجربة مماثلة سابقة، وعليه ايضا سرت موجة من التخمين والاستشراف لسمات ما بعد الولادة الحكومية المنتظرة وما يمكن ان تشهده من انجازات بلوغاً الى قانون الانتخاب الذي ستتولى هذه الحكومة وضعه. لكن رياح الامور سارت لاحقا خلافا لكل سفن المتوقعين، فلبنان أحيا ذكرى الاستقلال بأربعة رؤساء، وبعده تبددت ايضا تباعا كل المواعيد التي حددت لولادة الحكومة ليتبين بعدها ان الامور اعقد مما تخيل البعض.


ولهذا التعقيد اسبابه المستوطِنة واخرى مستجدة، اذ لم يسبق على سبيل المثال للطبقة السياسية في لبنان، حتى في فترات الاستقرار والبحبوحة السياسية، ان أُلفت حكومة بأقل من شهر. حتى حكومة الرئيس نجيب ميقاتي التي عدّها البعض متجانسة الى حد بعيد احتاج تأليفها الى اشهر تزيد على الستة.


لذا كان تحديد موعد انجاز حكومة في اسبوعين مغامرة كبرى وتحديا لم يكن مأمونا ندم عليه اولئك الذين تسرّعوا في الرهان، وقد اتضح لهم بالملموس ان هذه الحكومة التي ينبغي ان تكون على شفا الولادة لا تنطبق عليها صفة الحكومة الانتقالية التي يمكن انتاجها كيفما اتفق، بل هي حكومة تأسيسية لعهد رئاسي جديد يسعى كل مكوّن ان يرسي أسس معاييره واحجامه وحدود مساحة حضوره مستقبلا، وان يضع مداميك لأمر واقع يسعى الى ترسيخه في قابل الحكومات والطبخات السياسية.


هذا في جانب، وفي جانب آخر لم يعد خافيا ان ثمة شريحة لا يستهان بها من الطبقة السياسية تبحث عن فرصة لتصفية حسابها مع عون الرئيس ومع عون الحالة السياسية، وفي مقدمها الرئيس نبيه بري الذي لم يستطع ان يخفي شعوره بالخسارة مما جرى. فعشية الانتخاب وجد ان ثلاثاً من القوى الاربع التي تلوذ عادة بعين التينة وتعتبرها مرجعيتها السياسية وهي النائب طلال ارسلان وحزبا القومي والبعث، قد اضطرت الى الانقلاب على خياره وصوّت نوابها لعون بعدما أتتها "التعليمة" الحاسمة من دمشق. ولم يخفف من ذلك جائزة الترضية التي اخذها من "حزب الله" لحظة كلّفه التحدث باسمه في مفاوضات تأليف الحكومة. لذا كان بديهيا في نظر كثيرين ان يكبّر بري القطب الصغيرة المخفية وان يجعل من حبة التعقيدات قبة، وان يجعل استطرادا من قضية تمثيل النائب سليمان فرنجية قميص عثمان، مستغلا وصية السيد حسن نصرالله لعون في لقائهما الاخير ان يحفظ فرنجية الذي "وإن اخطأ معك بالتفاصيل فانه لم يخطئ في الاستراتيجيا".


يضاف الى ذلك ان "التيار الوطني الحر" مضطر الى ان يبذل جهودا كبرى لكي يفي بتعهدات اعطاها سابقا لـ "القوات اللبنانية" ليحصل على دعمها، والتي ربما يتعامل البعض معها من منطلق انها تنطوي على رغبة بارساء اسس ثنائية مسيحية على غرار ثنائيات اخرى سابقة، وهو ما يخيف الذين اعتادوا ان يوزعوا الحصة المسيحية في الحكومة بين "القبائل" جوائز ترضية لحسابات معينة.


لذا فان ثمة في الاوساط السياسية، ومنها اوساط شيعية، من يجد مبررات للسلوك العوني الحالي في مضمار تأليف الحكومة لاعتبارين اثنين: الاول ان بري وفرنجية رفضا سلفا العماد عون وعملا المستحيل لمنعه من بلوغ قصر بعبدا فكان ذهابه الى معراب للبحث عن حليف امرا طبيعيا ومبررا.


الثاني ان سعيهما ("التيار" و"القوات") لترسيخ اسس ثنائية مسيحية تكون لها لاحقا كلمة الفصل في اي عملية سياسية مقبلة امر مبرر ما دام الآخرون، وفي مقدمهم "حزب الله"، مصممين على الدفاع عن الثنائية الشيعية، بل ان الحزب بذل اخيرا جهودا خارقة لاسترضاء بري والحفاظ على التحالف الشيعي.


وفي كل الاحوال، الحكومة ستولد بين يوم وآخر، وليس من مصلحة المعرقلين المعروفين المضي قدماً في لعبة العرقلة والتعطيل لان ذلك من شأنه ان يصعّب اوضاعهم ويهز صورتهم.