علي نون

انزعج الكرملين من قول الزعيم التركي رجب طيب أردوغان أن دخول قواته إلى الشمال السوري يهدف في واقع الحال إلى الإطاحة بـ«الطاغية» بشار الأسد.. وأوضح نائب وزير الخارجية ميخائيل بوغدانوف أن ذلك القول «يتناقض مع الاتفاقات» الروسية - التركية!

وعلى هامش هذه المناحة، سُجّل انزعاج ظواهر صوتية عدة في دمشق وبعض نواحينا... غير أن الأهم هو أن موسكو التي اعتبرت موقف أردوغان منافياً لـ«الاتفاقات» البينية معه، لم توضح تماماً من جهتها ما هي تلك «الاتفاقات»! وعلى ماذا رست؟ مثلما لم توضح في الأساس أهدافها الأخيرة من تدخلها في سوريا! وعلى ماذا كانت تفاوض الأميركيين على مدى السنوات الماضية! وعلى أي أساس؟ وماذا كان يعني مصطلح «الحل السياسي» بالنسبة إليها، إذا لم يكن يعني في أدنى حدود الواقعية، وأياً تكن طبيعته ومرحليته ومدته الزمنية، إسدال الستار الأخير على حكم فئوي، دمّر سوريا وشرّد أهلها وقتل مئات الآلاف من السوريين وشلّع «السيادة» الوطنية وباعها بالجملة والمفرّق لكل طامع وطامح.. من دون أن يتمكن في المقابل من استعادة شبر واحد من أرضه المحتلة في الجولان منذ خمسين عاماً!

قول الزعيم أردوغان واضح وشفّاف ويتلاءم بكل المقاييس السياسية والإنسانية وتلك الخاصة بالأمن القومي التركي، مع أبسط قواعد المنطق السليم والصحّي والصحيح.. في حين لا يمكن حتى الآن، وضع جملة مفيدة واحدة تدل على الهدف الأخير للقيادة الروسية من تدخّلها في سوريا! وما إذا كانت مصالحها الاستراتيجية العليا والواقعية تكمن فعلياً في بناء نفوذ فوق أرض محروقة! أو بين قوم منكوبين! أو الركون إلى تابع مثل الأسد يمكنه غداً، إذا غمز له دونالد ترامب غمزة واحدة، أن يبيع موسكو ويشتري الأميركيين! أو استبدال غالبية السوريين ومعهم النسيج البشري الأكثري في العالمَين العربي والإسلامي، بمجموعة فئوية عصابية مستعدة لخرق كل مقدّس أرضي وسماوي في سبيل استمرارها في السلطة!

التعويذة الأشهر التي طرحها الروس لتبرير نزولهم العسكري الطنّان في سوريا، هي «محاربة الإرهاب».. لكن كل من عليها يعرف بأن الآلة الحربية الروسية استهدفت كل شيء إلا الإرهاب! ولم تنكر في كل حال أنها تعتبر كل من قال لا للحكم الأسدي إرهابياً! وأنها في الإجمال لم توفّر أحداً من البيئة الوطنية الأكثرية مدنياً كان أم محارباً، طفلاً أو عجوزاً أو سيدة! مستشفى أو مدرسة أو طريقاً أو حياً سكنياً! مخبزاً أو منشأة للمياه أو الكهرباء!

وأكثر من ذلك، وأمرّ وأغرب، هو أن الفظاظة وانعدام الحس البشري والحساسية المدنية عند صنّاع القرار الروسي على المستويين السياسي والعسكري، وصلت بهم إلى حدود التشاوف بأنهم يجرّبون أسلحتهم الحديثة في سوريا! ويختبرونها! وأن هذه أثبتت فاعليتها! من دون أن يتوقف عاقل واحد في موسكو أمام غلاظة القول والمشهد وأمام الدرك الذي وصلت إليه مقاييس الأنسنة عند هؤلاء! أو أن يقول «علمياً»، إن كفاءة الأسلحة مثلاً تظهر في حروب متكافئة وحقيقية وليس بالإغارة من الجو على مدنيين بالجملة، أو على مقاتلين لا يملكون طيراناً حربياً! ولا حتى صاروخاً واحداً مضاداً للطيران! أو أن يقول فوق ذلك إن الآلة العسكرية الروسية كانت ولا تزال تسرح في فضاء مكشوف ومفتوح! لا «ناتو» ولا أميركيين ولا «ستينغر».. ولا بطيخ في وجهها! وإن ادعاء «البطولات» من خلال الفتك الهمجي بالمدنيين أمر لا يليق بدولة مثل روسيا تسعى قيادتها إلى وضعية القوى العظمى مجدداً!

ما قاله أردوغان هو عين المنطق والصواب إلا إذا أُصيب هذا العالم بأعراض الوحشنة وصار يعتبر أن قتل مليون سوري هو أمر عادي في الطريق إلى «القضاء» على بضع مئات من الإرهابيين الملتبسين!.. أو في سبيل إبقاء طاغية من نوع بشار الأسد في السلطة!

سلمت سيد أردوغان.