عبدالله بن ربيعان

تطغى بعض الشخصيات على المكان الذي تعيش فيه حتى لا يعود ممكناً التفريق بين الحديث عن الشخص والحديث عن المكان. ومن هذه الشخصيات وربما أشهرها في العصر الحاضر هو الزعيم الكوبي فيدل كاسترو، الذي منذ أن اعتلى كرسي الرئاسة في هافانا حتى طغت شخصيته على المكان وأصبح الحديث عن كوبا حديثاً عن كاسترو والعكس صحيح.

شهرة كاسترو الذي وصل إلى السلطة في كانون الثاني (نوفمبر) 1959 بعد إطاحته نظام الديكتاتور فولغينسيو باتيستا المؤيد لواشنطن، جاءت بسبب معارضته سياسات أميركا وقوة أميركا واقتصاد أميركا أو وقوفه على النقيض منها. وعلى رغم ضغوط واشنطن بقي كاسترو صامداً لم يتزعزع في وجه 11 رئيساً تناوبوا على المكتب البيضاوي في البيت الأبيض بواشنطن من دون ان يستطيع أي منهم التأثير فيه أو الإطاحة بحكمه بوسائل شملت الحصار الاقتصادي، والسعي عسكرياً إلى إسقاطه بإنزال قوات كوماندوس في ما عرف لاحقاً بغزو خليج الخنازير في أوائل 1961، ناهيك عن الحصار البحري. فكرياً، اختار كاسترو نموذج الاقتصاد الشيوعي وكان مخلصاً لمبادئ الرفيقين كارل ماركس وفريدريك إنغلز، وسمى نفسه السكرتير الأول للحزب الشيوعي الكوبي، وأراد ان يصدّر الثورة الماركسية إلى دول أميركا اللاتينية، وإلى أفريقيا خصوصاً أنغولا وإثيوبيا، وبقي حتى وفاته وفياً للفكر الشيوعي الذي اعتنقه منذ ان كان ثورياً في شبابه ورفيقاً للمناضل الأرجنتيني الشهير إرنستو تشي غيفارا، وحوّل كاسترو بلده كوبا بسبب الفكر الذي اعتنقه إلى حكم الحزب الواحد.

اقتصادياً، عانى كاسترو بعد تفكك الاتحاد السوفياتي، الممول الرئيس لبلاده، في الشهر الأخير من 1991، إلا أنه سرعان ما حصل على الدعم من صديقه المقرب هوغو تشافيز، رئيس فنزويلا الراحل الذي وصفه كاسترو بالابن الروحي له، كما دعمته الصين بعد ذلك وإن كان بدرجة أقل. الاقتصاد الكوبي الذي يعيش في عزلة عن العالم بسبب سياسات كاسترو بدأ ينفتح أخيراً على اقتصاد السوق، حتى في أواخر أيام كاسترو الذي يمكن وصفه بحارس الشيوعية الأخير وتوفي هذا الأسبوع عن 90 سنة، فمنذ تولي أخيه راؤول كاسترو الحكم في البلد فعلياً منذ 2006 بسبب مرض كاسترو، ووجه الاقتصاد الكوبي يتغير في شكل جدي، وإن كانت تحسب لكاسترو جودة التعليم وتميز الرعاية الطبية المجانية في هذا البلد الفقير.

صحيفة «تلغراف» اللندنية أفردت موضوعاً كبيراً هذا الأسبوع عنونته بـ «ثورة جديدة تجتاج كوبا... وصول اقتصاد السوق بعد وفاة كاسترو» وقالت فيه ان التغير الاقتصادي بدأ منذ العام 2011 في كوبا التي يبلغ عدد سكانها 11.1 مليون شخص، إذ أدخلت بعض الإصلاحات التي تدعم التوجه نحو اقتصاد السوق وتدعم أصحاب الأعمال الصغيرة والمتوسطة والبزنس الشخصي في البلد. وكانت النتيجة زيادة مشاريع التوظيف الذاتي من 148 ألفاً عام 2009 إلى ما يزيد عن 500 ألف أواخر 2015، كما ان اعتماد الاقتصاد الكوبي على السياحة والتجارة أمر يشهد نمواً مستمراً منذ تولي راؤول الرئاسة.

أما اتفاق راؤول مع الولايات المتحدة في كانون الأول (ديسمبر) 2014 على إعادة بناء العلاقات الديبلوماسية وإنهاء عقود من العداوة والذي توّج بزيارة الرئيس الأميركي باراك أوباما هافانا مطلع العام الحالي يعطي إشارة واضحة إلى التوجه المستقبلي لانفتاح هافانا على اقتصاد السوق بعد عقود من العزلة في ظل نظام تخطيط مركزي يعتمد في كل أجزائه على الحكومة. يملك الاقتصاد الكوبي مصادر جيدة للدخل مثل «الخدمات الصحية التي تقوم بتصديرها، والسكر، والنيكل، والتبغ والحمضيات والبن، والمستحضرات الصيدلانية إضافة إلى قطاع السياحة» (صحيفة «البورصة» يوم 26 تشرين الثاني - نوفمبر الجاري)، وهي مقومات يمكن تطويرها لدخول اقتصاد السوق من بابه الواسع.

ختاماً، عاش كاسترو حياته مناضلاً ومحارباً للرأسمالية، ووصف رجال الأعمال في الرأسمالية بـ «طبقة من الطفيليات تعيش على جهد الآخرين»، إلا ان ما آمن به كاسترو وما عاش حياته مدافعاً عنه ليس ضرورياً ان يبقى بعد رحيله، فالشيوعية ماتت بتفكك الاتحاد السوفياتي ولم يعد هناك لأحد مكان خارج اقتصاد السوق، وهو ما يسعى إلى فعله حالياً أخو كاسترو، ويتوقع ان تنفتح هافانا على كل الاقتصادات الحرة قريباً وأن تستبدل ثوبها القديم بثوب لا يمت بصلة إلى أفكار الرفيقين ماركس وإنغلز.