نديم قطيش

بكرت كثيًرا قوى محور إيران، وحلفاؤها في لبنان، في الاشتباك مع عهد الرئيس ميشال عون. بدأ المعركة رئيس مجلس النواب نبيه بري قبل جلسة الانتخاب الرئاسية، واستكمل الاشتباك معه في جلسة الانتخاب نفسها التي شهدت أربع جولات اقتراع انطوت على إساءة لمناخ جلسة الانتخاب وجديتها ورصانتها. ثم في اللحظة التي بدا فيها أن أولى حكومات العهد ستتشكل خلال ساعات، سقطت من سماء قوى حزب الله حزمة شروط جمدت مسار التأليف. تبع ذلك كلام سياسي مباشر وغير مباشر وآخر إعلامي شبه سياسي، يصب كله في اتجاه واحد؛ «تأديب» عون و«ترويض العهد» قبل أن يبدأ حًقا في التصرف كرئيس للجمهورية وفق صلاحيات محددة، متجاوًزا الأعراف التي أرسيت بين الأعوام 1990 و2016، والتي كبلت وعدلت الدستور ضمًنا، بحكم توازنات الأمر الواقع.

أولاً، هي تنطوي على رفض فكرة أن ثمة شيًئا اسمه «عهد» أصلاً، على نحو ما كانته السياسة في لبنان بموجب دستور الجمهورية الأولى الذي تميز برئاسة جمهورية واسعة الصلاحيات، تجعل من الرئيس مهندًسا ومقرًرا لعهده وسياساته الداخلية والخارجية، من تشكيل الحكومة واختيار وزرائها ورئيسها، وصولاً إلى صلاحيته في حل مجلس النواب.

الهجوم على عون، وهو صاحب شخصية خاصة جًدا، بشأن كل ما يتصل بدوره وموقعه، يهدف إلى تذكيره بأن التفكير بمنطق العهد هو تفكير ينتمي إلى زمن آخر لم تعد أسسه القانونية والدستورية قائمة، وأن الرئيس الذي تقلصت صلاحياته دستورًيا تقلص دوره أيًضا بحكم الأعراف، وبحكم تجارب رؤساء ضعفاء منذ «الطائف» إلى اليوم.. مسار ترويضي، يحمل رسالة واضحة لعون بأن رئاسة الجمهورية ليست هي محورالنظام السياسي ولا تستطيع، ولو رمزًيا، أن تتصدر إعادة تكوين السلطة. 

ثانًيا، تستهدف الحملة عودة الرئيس سعد الحريري إلى السلطة التنفيذية، ومنعه من جعل هذه العودة ولادة جديدة للحيوية السياسية التي لطالما مثلتها «الحريرية السياسية»، إن كان على مستوى التوازن في خيارات لبنان العربية أو على مستوى التوازن الوطني الداخلي. ليس خافًيا أن استهداف مؤسسة رئاسة مجلس الوزراء هو عنصر ثابت في استراتيجية حزب اللهوفريقه، وقد حاول تحقيق أكبر قدر من الإصابات في جسم هذه المؤسسة منذ أن انقلب على حكومة الحريري الأولى مطلع عام 2011. وما لبث أن ذهب إلى حكومة برئاسة نجيب ميقاتي، سماها الرئيس ميقاتي نفسه قبل أسابيع أنها كانت جزًءا من مسار انقلابي!!

قال ميقاتي لصحيفة السفير: «الحريري كان منتصًرا في الانتخابات النيابية، وفي ذروة قوته الشعبية، وشكل حكومة وحدة وطنية، وبعد ذلك تم الانقلاب عليه بالطريقة التي نعرفها جميًعا»، والتي كان ميقاتي عنوانها في السراي الحكومي!!

أما ذروة الاستهداف الممنهج لرئاسة مجلس الوزراء، فكانت خلال حكومة الرئيس تمام سلام، وذلك تحت غطاء الفراغ في سدة رئاسة الجمهورية. تطاول حزب الله على صلاحيات رئيس الحكومة، من وضع جدول أعمال مجلس الوزراء إلى آلية التصويت واتخاذ القرار داخل الحكومة، خلاًفا لكل مندرجات الدستور والقوانين الناظمة لعمل السلطة التنفيذية.

ويستمر ذلك اليوم من خلال محاولة مصادرة ما أمكن من صلاحيات رئيس الحكومة المكلف خلال تشكيل الحكومة.. وبعدها!

ثالًثا، تعكس الحملة على عون مخاوف تتصل بتوازنات وتحالفات «كونفدرالية» الطوائف التي هي لبنان. فالتلاقي المسيحي - المسيحي الذي عبر عنه التفاهم بين الجنرال عون والقوات اللبنانية، والذي يترجم اليوم تنسيًقا حكومًيا، وغًدا تنسيًقا نيابًيا، معطوًفا على قدرة الحريري على التقاطع مع هذا الثنائي، على نحو أكبر بكثير من قدرة حزب اللهوحلفائه، يضع الشيعية السياسية في لبنان أمام تطور سياسي جديد لم تعتد عليه منذ اتفاق الطائف. من هنا بدأت تطفو على سطح التصريحات السياسية، والهمس وراء الكواليس، مطالب تريد للشيعة قدرة تعطيل شيعية صافية داخل السلطة التنفيذية، لا تكون محكومة بتحالفات متغيرة أو متذبذبة.

كما أن هناك هواجس ليست قليلة تتعلق بمواقف لبنان الدولة من صراعات المحاور في المنطقة، إذ يتساوى في حسابات حزب الله قول عون إنه على الحياد مع اعتبار ذلك اصطفاًفا إلى جانب السعودية وحلفائها العرب. فليست الرياض هي الساعية إلى تغيير موقع لبنان ونقله، بل إيران التي تريد للبنان أن يكون منخرًطا بأوسع طريقة ممكنة في الاصطفاف الحاصل في سياق سياسة «تجميع العواصم» العربية إلى جانب إيران وسياستها.

إزاء ذلك، لا ينبغي أن تعلو أي مصلحة على مصلحة تأمين انطلاق العهد، رئاسة جمهورية وحكومة، ولو تطلب الأمر دفع أثمان هنا أو هناك. في خطاب ترشيحه عون، قال الحريري: «من يريد إقامة توازن بين الدولة والسلاح غير الشرعي عليه أن يضع حًدا للفراغ الرئاسي»، وهي معادلة أثبتت قدرتها على التمدد إلى مساحات أوسع من مسألة السلاح. فكلما انخرط الرئيس عون في الرئاسة، كبر التناقض بينه وبين الدويلة التي تريد لانتقاله إلى القصر الرئاسي ألا يتجاوز تغيير عنوان السكن من الرابية إلى بعبدا!