سليم نصار

 A+a-النسخة: الورقية - دوليالسبت، ٣ ديسمبر/ كانون الأول ٢٠١٦ (٠٠:٠ - بتوقيت غرينتش)

عندما باشر فيديل كاسترو إلقاء خطابه أمام المندوبين والصحافيين داخل قاعة الجمعية العامة للأمم المتحدة في 26 أيلول (سبتمبر) 1960، لوحظ أن المترجمين ارتبكوا، وتأخروا في ترجمة عبارات الزعيم الكوبي. والسبب - كما فسره مرافقوه - أنه لا يكتب خطاباته كي يقدمها مسبقاً لدائرة الترجمة، بحيث يسهل الأمر على ضبط إيقاع العبارات المترجمة بطريقة فورية إلى ست لغات عالمية.

وهناك سبب أكثر أهمية، يتعلق بشغف كاسترو بإلقاء خطابات عفوية، مرتجلة، تسعفه على جذب انتباه المستمعين إليه، لا فرق أكانوا داخل الجمعية العامة... أم في وسط «ساحة الثورة» في هافانا.

بعد انقضاء ساعتين تقريباً، لم يكن كاسترو قد أنهى تهجّمه على الاستخبارات الأميركية التي هزمها في عملية «خليج الخنازير».

واستغل الديبلوماسي اللبناني المرحوم سهيل شماس فرصة انسحاب الوفد الأميركي من القاعة احتجاجاً، ليجد الفرصة مواتية للتسلل إلى الخارج. وكان ذلك بسبب الارتباط بموعد غداء في مطعم قريب من مبنى الأمم المتحدة.

ولما عدنا، سهيل وأنا، إلى القاعة، فاجأنا الزعيم الكوبي باستئناف إلقاء خطابه الماراثوني الذي استغرقت مدته سبع ساعات. واعتبرت المنظمة أن كاسترو سجل رقماً قياسياً في الخطابة لم يبلغه من قبله أي متكلم آخر.

هذا الأسبوع افتقد الكوبيون الصوت الذي ألفوا سماعه طوال نصف قرن تقريباً. ومع أنه اعتزل الحكم قبل عشر سنوات، وجيَّر المسؤولية إلى شقيقه راوول، إلا أن موته أحدث هلعاً أعظم من الهلع الذي أصاب الروس عقب موت ستالين.

وبناء على رغبته، فقد أحرِقت جثته، ونقِل رمادها إلى سانتياغو، جنوب شرقي البلاد، أولى المدن التي شهدت انطلاقة الثورة سنة 1953. ووفق برنامج التكريم، فإن الدولة قررت اعتماد يوم غد الأحد يوماً تاريخياً بحضور أكبر تجمع شعبي تنادى المواطنون إليه بهدف وداع زعيمهم.

ومع غياب كاسترو، تطوي الجزيرة المقلقة لجارتها الكبرى الولايات المتحدة صفحة من الزمن استمرت خمسين سنة.

ولِد فيديل كاسترو في 13 آب (أغسطس) 1926، في «مياري» حيث يقع آخر الجزء الشرقي من جزيرة كوبا. وهو نجل أنجيل كاسترو أرغيز، المهاجر من غربي إسبانيا، والذي يختلف المؤرخون حول دوره قبل أن يكبر أولاده. بعضهم يقول إنه قاتل سنة 1898 في الحرب الإسبانية - الأميركية، والبعض الآخر يقول إنه عمل في مزارع قصب السكر لمصلحة «الشركة المتحدة للفواكه». وبسبب الحاجة الضرورية لهذه المادة، فقد جنى أنجيل ما يكفي لإعالة أسرته وإدخال أفرادها إلى المدارس.

الزوجة الأولى للمهاجر الإسباني أنجبت له ولدين. بينما أنجب من الطباخة في المنزل لينا غونزاليس خمسة أولاد كان فيديل الثاني بينهم. ويبدو أن الوالد تردد في تسجيلهم بصورة رسمية في دائرة الأحوال الشخصية حرصاً على سمعته. ولكنه اضطر إلى تجاوز هذه العقدة عندما اضطرته الكنيسة الكاثوليكية إلى تسجيلهم تمهيداً لقبولهم في مدارس الرهبنة.

والثابت أن النزعة العلمانية التي ميزت فيديل عن رفاقه لم تؤثر فيها التعاليم المسيحية في الجامعة التي تخرج منها كمحامٍ. وبسبب نشاطه السياسي، حاول الحزب الشيوعي استمالته للالتحاق بصفوفه. وتشير سجلات الحزب في هافانا إلى أن انضمامه تم سنة 1950. ولكنه من جهة أخرى التحق بـ «حزب الشعب» المرخص له بالعمل، ونجح في دخول مجلس النواب خلال دورة 1952.

بعد انقضاء شهرين على نيابة كاسترو، فوجىء بحدوث انقلاب عسكري قام به الجنرال فيلغانسيو باتيستا ضد حكومة الرئيس كارلوس سوكارس. وكان من الطبيعي أن يعمِّم الرئيس الجديد الأحكام العرفية، ويشكل حكومة عسكرية استهلت عملها بحلّ مجلس النواب.

مطلع سنة 1953 باشر فيديل كاسترو تنظيم ثورة مسلحة. ودشن نشاطها باقتحام ثكنة عسكرية على رأس مجموعة مسلحة في مدينة سانتياغو. ومع انطلاق الثورة، وزع كاسترو منشورات دعا فيها الرئيس باتيستا إلى وقف سياسة القمع، والسماح للشعب بممارسة الحريات التي أقرتها شرعة الأمم المتحدة. ومع تلك المنشورات، وزع نصّ رسالة شخصية منه إلى الشعب، واعداً بتوزيع أراضي المالكين على الفقراء والمحتاجين. واعتُبِرَت تلك الرسالة بمثابة عود الثقاب الذي أشعل غضب الشعب المرهق.

وخوفاً من انتشار «ثورة الفقراء»، أمر الرئيس باتيستا باعتقال كاسترو، وزجّه في السجن مع عدد من أنصاره سنة 1954.

بعد خروجه من السجن، سافر كاسترو إلى المكسيك بهدف إعادة تنظيم صفوف حركته الثورية، وإقحام عناصر الحزب الشيوعي في مقاومة يعتبرها ضرورية لكل بلدان أميركا اللاتينية. وبعد الانتهاء من عمليات التدريب والتخطيط، عهد إلى شقيقه راوول بمهمة شن الغارات على قوات باتيستا من منطقة سيارا مايسترا.

في هذه المرحلة بالذات، وجد أعضاء الجالية اللبنانية الكبيرة في كوبا أن من المناسب إرسال بعض المتطوعين للالتحاق بالثوار. وكان الغرض من تلك الخطوة كسب ودّ كاسترو وعدم مجافاة أنصاره. وربما اكتشفوا أن الثورة قد تنجح، لأن الولايات المتحدة بدأت تتخلى تدريجياً عن باتيستا. والدليل أن طائراتها راحت ترمي بالمظلات الأسلحة والذخيرة والأدوية للثوار المنتشرين في الغابات النائية.

ونجحت تلك التسوية في الحفاظ على سلامة عدد كبير من أبناء الجالية. مثلما نجح بعض أفرادها في الوصول إلى أعلى المراتب في الحكومة والإدارات العامة والطب والرياضة والموسيقى. ونخصّ بالذكر وزير الاقتصاد الذي كلفه كاسترو سنة 1962 عقد صفقة مع يوسف بيدس (بنك أنترا) تقضي بتسويق إنتاج السكر الذي فرضت عليه واشنطن الحظر الكامل.

ولسبب مجهول كانت كوبا في طليعة البلدان التي اختارها المهاجرون اللبنانيون بعد مجازر 1860، بحيث توجه عدد كبير منهم إلى المكسيك والبرازيل أيضاً. وقد ذكر الكاتب الكبير أمين معلوف في مؤلفه، وعنوانه «بدايات»، أن جدّه بطرس معلوف عاش في هافانا سنة 1889.

المهم، أن تقدم الثوار نحو العاصمة أجبر باتيستا على الهرب إلى خارج البلاد، وكان ذلك في 31 كانون الأول (ديسمبر) 1958.

دخل فيديل كاسترو إلى هافانا دخول قيصر مظفر، الأمر الذي جعل الحشود المنتظرة وصوله تتدافع على جانبي الطريق لإلقاء نظرات الترحيب. وبعدما نصّبه الحزب رئيساً للقيادة المشتركة في الجيش، رفّع نفسه بعد سنة 1959 ليصبح رئيساً للحكومة.

ومن رئاسة الحكومة التي استخدمها لتثبيت نظام الحزب الواحد، عيَّن نفسه أميناً عاماً للحزب الشيوعي الكوبي. كما عيّن شقيقه راوول وزيراً للقوات المسلحة، وزجّ رجال المعارضة في السجون، وأمّم كل ما تملكه الشركات الأميركية من فنادق وكازينوات ونواد ومحال تجارية.

ولما اتسعت رقعة خطره على أمن الولايات المتحدة، قرر رئيس الاستخبارات المركزية ألن دالاس إسقاطه بواسطة حفنة من الهاربين والناقمين والمرتزقة. ويبدو أن هافانا كانت على علم مسبق بهجوم «خليج الخنازير»، الأمر الذي ساعدها على دحرهم بسرعة غير متوقعة.

وبسبب حاجته إلى دعم موسكو المتواصل، وتزويد محطات البنزين بالنفط المجاني، استغلت القيادة السوفياتية حماسته العقائدية لتوسيع نفوذها في القارة الإفريقية. وهكذا أرسل كاسترو صديقه تشي غيفارا إلى أنغولا وإثيوبيا، على رأس قوة عسكرية مؤلفة من 40 ألف جندي ظلت تقاتل مدة خمس عشرة سنة.

ولما نصبت واشنطن صواريخ نووية موجهة إلى المدن الروسية على حدود تركيا الشمالية، ردّ عليها نيكيتا خروتشيف بنقل صواريخ موجهة إلى المدن الأميركية من فوق منصات نُشرت فوق شواطىء كوبا.

وفي تشرين الأول (أكتوبر) سنة 1962، هدد الرئيس جون كينيدي باستخدام السلاح النووي ما لم تسحب موسكو صواريخها. وعلى امتداد 13 يوماً، عاش العالم على أعصابه بانتظار الانفجار أو التسوية. وفي نهاية الأمر قبل خروتشيف بسحب صواريخه مقابل قبول واشنطن بسحب صواريخها من تركيا.

بعد مرور أربعين سنة على تلك الأزمة، تولى توماس بلانتون، مدير أرشيف الأمن القومي الأميركي، تنظيم مؤتمر خاص بهدف إحياء الظروف السياسية والأمنية التي أحاطت بتلك الواقعة.

تمثل الفريق الأميركي بوزير الدفاع في عهد جون كينيدي روبرت ماكنمارا الذي توفي بعد ذلك في تموز (يوليو) 2009، والمؤرخ أرثر شلسنجر وأثيل أرملة روبرت كينيدي.

شارك في ذلك المؤتمر الاستثنائي الرئيس فيديل كاسترو باعتباره أهم شاهد على تلك الأزمة الضارية، ولكنه لم يمكث أكثر من ساعة واحدة بناء على نصيحة طبيبه.

مع استعادة كامل الوقائع داخل المؤتمر، عرف المشاركون أن وزارة الدفاع السوفياتية منحت ثلاثة بحارة حق استخدام الصواريخ النووية شرط الحصول على الإجماع. وكان الضابط فاديم أورلوف يقود إحدى الغواصات الثلاث التي أرسلتها موسكو لحماية المياه الإقليمية الكوبية. وتبيّن أثناء مراجعة ذلك الحادث أن أورلوف امتنع عن تأييد زميليه في قرار استعمال السلاح النووي. لهذا السبب أصبح اسمه مرادفاً لـ «منقذ البشرية».

هذه الواقعة وغيرها من الوقائع المثيرة ظهرت هذا الأسبوع في الصحف وعلى شاشات التلفزيون بمناسبة وفاة الزعيم الذي شغل العالم طوال نصف قرن تقريباً. وقد وصفه سفير بريطانيا في كوبا سابقاً، بول هار، موته بأنه يمثل موت رجال عدة في شخص واحد.

كان سياسياً عقائدياً يؤمن بأن التاريخ سيغفر له. وكان مناضلاً شرساً شجع خروتشيف على تحدي كينيدي، والرد على تهديده. وكان شغوفاً بالرياضة ومعاشرة الأدباء من أمثال أرنست همنغواي وغابريل غارسيا ماركيز والفيلسوف الوجودي جان بول سارتر وصديقته سيمون دو بوفار.

ومع أنه كان ملحداً، إلا أن ذلك الاعتقاد لم يمنعه من محاورة البابا يوحنا بولس الثاني، ومن استقبال البابا فرنسيس الذي اختار كوبا لإجراء مصالحة تاريخية مع بطريرك الكنيسة الأرثوذكسية.

بقي أن نذكر أن الاستخبارات المركزية الأميركية جربت اغتياله 634 مرة خلال خمسين سنة، ولكنها في النهاية عجزت عن قتله.

وعندما داهمه المرض قبل عشر سنوات، تنازل عن موقعه مختاراً لمصلحة شقيقه راوول الذي يحاول ملء فراغ قائد أسطوري أتعبت تحدياته المرهقة أحد عشر رئيساً أميركياً!