علي سعد الموسى

صباح الأمس، وبعيد نشر مقالي "إلى شيخ القذف" يتصل بي مسؤول كبير سابق في وزارة الشؤون الإسلامية ليذكر لي أن لجان تقويم وتقييم الخطباء والأئمة في المناطق المختلفة قد عالجوا حتى اللحظة ما يزيد على خمسة آلاف حالة خروج واضحة عن مقاصد الفهم وآداب الدعوة في الخطاب الديني. يتحدث المسؤول الكبير السابق عن ما يقرب من عشرة آلاف كلمة قصيرة في اليوم الواحد تلقى بعد الصلوات، وهو جيش كامل من المتطوعين المتبرعين والذي تصعب مراقبته، فلا بد أن يخرج من بين ثنايا هذا العدد الضخم فئام قليلة جدا وأقل من أصابع اليد الواحدة لتهذي بالنشاز، إما عن جهل أو عن عمد واستفزاز. هنا سأكتب رأيي: لماذا يلجأ مثل هؤلاء إلى النشاز أو الاستفزاز إلى هذا الحد المخيف الذي رمى فيه أحدهم ما يقرب من ربع مليون أسرة سعودية بالدياثة، لأن بناتهن يعملن في القطاع الصحي أو مبتعثات دراسة إلى فجاج الأرض؟ والجواب الوحيد يكمن في معادلة تشبه أرقام السوق وطبيعة الاقتصاد. كلما ارتفع المعروض ازدادت وتيرة التنافسية، وكلما تشابهت السلع سيلجأ البعض حتما إلى استعراض بضاعة "الفانتازيا" المليئة بالاختلاف اللامحدود، وبالإثارة التي لا تقبلها استنباطات الأصول والفقه والشرع، ولا ذائقة المجتمع وطبيعة حياته وأخلاقياته. طبائع ومنهج النشاز والاستفزاز عبر الإتيان بالغرائب هي أقصر الطرق ما بين نقطتي الفرد والشهرة، فكيف يكون الحال اليوم ونحن في هذا السوق الضخم الهائل من كمية الوعظ والمتنافسين فيه، وكيف لك أن تتوقع البقاء داخل النص الطبيعي للخطاب وبعضهم يلقي في العام الواحد ما لو تمت كتابته لاستهلك من الورق في عام واحد أضعاف كل ما ورد عن النبي المصطفى -عليه أفضل الصلاة والسلام- من صحيح الأحاديث طوال بعثته.
وسأروي لكم هذه القصة التي يعرفها جيدا كل حضور مؤتمر الحوار الوطني الثالث عن المجتمع والمرأة، لأنها تصلح مدخلا لثنائية "النشاز والشهرة". كان معنا يومها ثلاثة عمالقة من هيئة كبار العلماء عندما استلم طالب علم مبتدئ فرصة المداخلة ليبدأ سهام القذف بلغة مريضة بالغة القسوة. وبعده مباشرة تداخلت إحدى الأخوات الداعيات من قاعة النساء فلم تتمالك نفسها وأجهشت بالبكاء لدقائق ولم تستطع في النهاية سوى أن تقول "مهما كانت درجة الخوف والشكوك فالمرأة السعودية ليست رخيصة شرف إلى مثل هذا الحد". والعبرة الكبرى أن الإعلام والمجتمع لم يعرفا عن هذا المؤتمر إلا تلك اللقطة التاريخية لقذف المشارك وبكاء المشاركة التي ملأت كل الفضاءات يومها، ومن بعدها طار هذا الاسم النشاز إلى شهرته الواسعة العريضة التي حولته إلى نجم وعلى حساب من: على بكاء امرأة داعية.
ومن الخطأ بمكان أن نظن أن أباطرة الإثارة وأصحاب خطب وفتاوى النشاز أقل ذكاء وهم يستخدمون هذا المنهج إلى بوابة الشهرة. لدى هؤلاء حساباتهم الرقمية التي تستهدف الأتباع، وفي أقل الأحوال سنفترض أن في مجتمعنا 10 % من المتطرفين الذين تطربهم هذه الإثارة حتى ولو كانت عكس تعاليم هذا الدين العظيم، في إحسان الظن والدعوة باللين، أو حتى لو كانت ضد قيم المجتمع وفطرته. هؤلاء يستهدفون التابع الأعمى ليبنوا رصيد تيارهم بالملايين من قلب هذه النسبة المئوية. انتهت أركان الفكرة والمساحة.