عبدالله القفاري

كيف لنا أن نفهم مثقفا إسلامي الهوية تتراخى لديه كل القيم الإنسانية ليدعم قتل المتظاهرين، وهو يتحالف مع نظام قمعي لا يجيد سوى السحق والإبادة؟!

منذ مطلع 2011، أخذت صورة المثقف العربي تترنح... حتى بدت عقود الوهج التي أحاطت بذلك المثقف تتحول إلى حرائق ورماد.

تساءل الكثيرون: هل كنا ضحية خديعة كبرى، قدمت لنا ذلك المثقف باعتباره ضميرا لقيم الحق والخير والعدل.. ليتحول بين عشية وضحاها عندما بدت الحرائق تلتهم ثياب نظام القمع والاستبداد.. إلى مجرد بوق رخيص ومغامر صغير وبائع ومروج لأوهام البقاء في حضن سيده القديم/الجديد..!

ماذا حدث؟ أين ذهبت تلك الهالة الكبرى التي ظللت ذلك المثقف بكل تنويعاته القومية واليسارية والليبرالية.. إلى مستوى أن أصبح جزءا من حملة نظام القمع والمصادرة.. أو مزورا لمرحلة لن تشفع له أدواته في العبث في ملامحها لأن الجميع راقب مولودها منذ صرخته الأولى.

كيف لمثقف قومي أن يساند نظاما وحشيا قاتلا لا يعنيه سوى ديمومة سيطرته واستفراده وغرس أنيابه في جسد وطن ممزق منهك؟

كيف لمثقف عربي أن يدعم غزوا فارسيا وتحالفا طائفيا لتدمير بلاده.. وهو يرى كيف تم تحويل ثورة شعب يبحث عن الحياة إلى كفن بحجم الوطن. كيف يمكن له أن يُخرِّج هذا الدعم المتجاوز لكل مكونه الفكري وقضاياه الكبرى وسياق معتقداته التي ذهبت من ريح حروب الطوائف والإرهاب!؟

كيف يمكن لمثقف يساري أن يرمي بصوته إلى جانب حزب طائفي يقتل على الهوية ويدعم النظام القمعي لسحق ما تبقى من وطن وبشر وأمل ومستقبل؟

كيف لمثقف متجاوز لحدود الطوائف وعلائق التعصب المذهبي وطبيعة تكوين القوى المتطرفة أن يتحول بين عشية وضحاها إلى داعم ومنافح شرس لسحق ما تبقى من حق الإنسان بالحياة وتقرير مصيره، الذي صاردته نظم الطغيان!!

وكيف لنا أن نفهم مثقفا إسلامي الهوية تتراخى لديه كل القيم الإنسانية ليدعم قتل المتظاهرين، وهو يتحالف مع نظام قمعي لا يجيد سوى السحق والإبادة؟!

وكيف نقرأ مثقفا من مثقفي المقاومة والممانعة، ونحن نراه يتجاهل تماما كل ما أصاب قضيته الأم، ليزور المشهد اليوم على نحو يجعله في صلب الممانعة الكذوب.. بينما تكشف للعالم من أقصاه إلى أقصاه حجم الفرية الكبرى والجريمة الأكبر باسم المقاومة والممانعة؟!!

وكيف لمثقف ليبرالي أن يدعم سلطة ترمي بخصومها في السجون والمعتقلات دون وجه حق، فقط لأنه لا يرى سوى اختلافه الفكري معهم.. حيث تتعطل كل قيم الحق والعدل والإنسان.. فلا يرى فيهم سوى العداء الفكري المستحكم!!

إنها مرحلة عذاب لمن عاش ردحا يقرأ لأولئك ويتابع تخريجاتهم ويناقش طروحاتهم ويأمل فيمن تبقى منهم أن يحملوا مشاعل طالت عتمتها.

بالتأكيد ليس المثقفون العرب هم أولئك فقط.. إلا أن هذه الظاهرة جديرة بالنظر والتأمل.. وتحمل معها افتراضات كثيرة، لعل أهمها، أن المثقف العربي بكل تنويعاته وانشغالاته لم يكن أكثر من صورة باهتة تخفي قدرا كبيرا من التزييف.

إن أولئك في سلم التاريخ الذي لا يمكن تجاوز شروطه وأحكامه، سقطوا في أول اختبار جدي. فعتبات ذلك السلم ليست سوى درجات الحق والخير والعدل ووجه الإنسان، وحقه بالحياة كرامة وحرية وقيم لا يمكن تجاوزها.. إنهم الساقطون في اختبار الإنسان أولا، والساقطون في نقائض الخيرية ثانيا، والمدمرون لملامح الإنسان الذي طالما تغنوا به وله في أدبياتهم وفنهم وإنتاجهم.

أما من هم خارج تلك الدائرة المتواطئة.. فسنرى فريقين لا بد من التوقف عندهما. الأول من ظل قيد الموقف الأخلاقي والقيمي ملتزما تلك المنظومة الإنسانية والأخلاقية التي لا يمكن له تجاوزها.. ينافح عنها ويقاتل من أجلها بأدوات المثقف.. وهؤلاء هم القلة في زمن الاصطفاف القاتل. وأولئك سيذكرهم التاريخ والذاكرون بأنهم بقوا على نقاء مبادئهم ولم يلوثوها، وهم يدركون أن الظروف تقف ضدهم لا من ناحية طبيعة الصراع وأدواته، ولا من ناحية القيمة الفكرية التي لم يعد أحد يسأل عنها بين فرق الصراع الدامي والمدمر.

وفريق آخر، اختار العزلة والانكفاء.. وهو مدرك أن الأمر فوق طاقته. وأنه في مرمى خصوم لا يرحمون. والعزلة والصمت نوع من الموقف والاحتجاج السلبي.. ومن يطلب منهم فوق طاقتهم إنما يطلب بعض المستحيل في هذا الظرف العربي الذي فقد ملامحه ولم تبق سوى مشاهد الدمار والانهيار.

وإذا كان الله لم يُحمّل المؤمنين فوق طاقتهم "اتقوا الله ما استطعتم" فكيف لخلقه أن يحملوا أولئك عبئا لن يقووا على مواجهته وحدهم في مرحلة لا تشبه سواها.

المثقف العربي بين السقوط والعزلة.. ملامح لا بد من استذكارها كظاهرة تستحق التأمل في مرحلة تهاوت فيها الشعارات وتآكلت فيها الأدبيات القومية وذوت شعارات المقاومة والسيار.. وانكشفت ملامح ليبرالية مفصلة على مقاس مثقفين لا يرون فيها سوى مناوءة خصومهم.. وتشظت ملامح التيار الإسلامي بين التطرف والوقوع في شرك الأوهام.. وانكشفت ملامح الاستبداد بأبشع صورها وأدواتها.. فهل من المستغرب ألا يكون المثقف العربي جزءا من لعبة الاستقطاب.. أما ولأنه المثقف فيصبح سقوطه سقوطا للضمير الذي اغتيل في وضح النهار.