السيد ولد أباه

«ما بعد الحقيقة» post-truth عبارة جديدة أضيفت إلى قاموس «أكسفورد»، وهي في أصلها من اختراع «كاترين فاينر» رئيسة تحرير صحيفة «الجارديان» البريطانية، وقد استخدمتها للتعبير عن طبيعة الخطاب الانتخابي الذي واكب استفتاء المملكة المتحدة على الانسحاب من الاتحاد الأوروبي في العام الماضي. «ما بعد الحقيقة» ليس هو الكذب، بل هو أكثر راديكالية منه ما دام الخطاب الكاذب يظل في نهاية المطاف محكوماً بثنائية الصواب والخطأ، لأن المقصود به هو إقناع المخاطب بأنه حقيقي، في حين أن خطاب «ما بعد الحقيقة» لا يهدف أصلاً إلى التصديق، غرضه هو التعبير عن الأهواء والمشاعر والانفعالات لا التعبير عن الوقائع أو التقيد بسقف الإمكانات الواقعية.

لا أحد من الناخبين الأميركيين الذين اختاروا ترامب رئيساً للولايات المتحدة صدق أنه سيطرد المهاجرين غير الشرعيين، ويبنى سوراً عازلاً مع المكسيك ويشن حرباً تجارية على الصين، ويقضي في ظرف شهر واحد على «داعش»، ومع ذلك فضلوا البرنامج الذي يستحيل تطبيقه على البرنامج الذي لا يعد بحلول جذرية.

ولقد علق الفيلسوف الألماني «بتر سلوتردايك» على هذه الظاهرة بقوله إن الديمقراطيات الغربية أصبحت في وضع رواق مرضى السرطان الذين فقدوا الثقة بالأطباء واتجهوا إلى المعالجين بالوصفات السحرية الخارقة بحثاً عن أمل مستحيل، ومن هنا المأزق الجوهري المتولد عن انهيار مسلمة «عصمة الأغلبية العاقلة»، التي هي الفكرة التي تتأسس عليها الممارسة الديمقراطية.

التحولات السياسية الكبرى التي بدأت في العالم الغربي منذ صعود الحكومات «اليمينية» المتطرفة، وعودة الأنظمة السلطوية المناوئة للقيم الليبرالية التعددية (الديمقراطيات غير الليبرالية حسب تسمية المفكر السياسي الفرنسي بيار روزنفالون)، لا تعبر عن مجرد أزمة عميقة تطول النموذج الديمقراطي، بل تصل إلى جوهر العمل السياسي، أي مقاربة السياسة في أبعادها النظرية والعملية باعتبار السياسة تدبيراً للشأن العمومي.

هل ما نعيشه هو «موت السياسة» حسب تشخيص «رجيس دوبريه»، الذي يعرف السياسة بأنها الخروج من الطبيعة ودخول أفق التاريخ؟ الخروج من الطبيعة يعني التحرر من الهويات العضوية الموروثة والانتماءات الاجتماعية المقننة قبلياً، وتكريس حرية الاختيار على أساس الرؤية المجتمعية والأنساق الأيديولوجية، ومن هنا الآفاق الرحبة التي يفتحها التاريخ من حيث هو إمكانات مفتوحة ومنظور مستقبلي يصنعه الإنسان بإرادته الحرة. هل نشهد مساراً مضاداً بعودة السياسة إلى الطبيعة أي إلى الهويات الضيقة المغلقة كما يظهر من صعود الاتجاهات والنزعات اليمينية المحافظة؟

الواقع إن هذه الحركية الارتدادية لا يمكن اعتبارها خياراً مستقبلياً واعداً، وإنْ كانت تحيل إلى مؤشرات نوعية لازمة عميقة نعاني منها الممارسة السياسية في الديمقراطيات الغربية العريقة. ومن أبرز هذه المؤشرات تغير نوعي في خريطة التموقع السياسي تتمثل في تحول القاعدة الانتخابية التقليدية لأحزاب اليسار (الطبقة العمالية والفئات المهمشة الهشة) إلى اليمين المحافظ في الوقت الذي دفعت تشكيلات «اليسار» ثمن تبنيها لديناميكية العولمة، وما يرتبط بها من تقويض للهويات الإدماجية التقليدية (الدولة والأمة والأحزاب والنقابات...). هذا التغير في الخريطة الانتخابية واكبه تحول مماثل في الخطاب السياسي الذي انتقل من النموذج الاجتماعي (صراع الطبقات والمصالح الاجتماعية) إلى النموذج الثقافي (صراع الحضارات والهويات)، بما نلمس آثاره الواضحة في انتقال الأيديولوجيا القومية والدينية المتطرفة إلى الأحياء والمدن الصناعية العمالية التي كانت في الأصل مركز التنظيمات اليسارية والاشتراكية.

لا يمكن للتيارات «اليمينية» الجديدة أن تغير من طبيعة الواقع السياسي الجديد للديمقراطيات الحديثة، ومن ثم فإن خطاب «ما بعد الحقيقة»، الذي تعتمده ليس أكثر من وصفة عقيمة في معالجة أزمات مجتمعية جوهرية تتعلق بتضاؤل قدرة الفاعل السياسي نفسه على التحكم في الشأن العام. في كتابه «نهاية السلطة» (2013)، يلاحظ المفكر الفنزويلي (من أصل يهودي ليبي) «مواسيس نعيم» أن السلطة في القرن الحادي والعشرين غدت مشتتة متناثرة لا سبيل للتحكم مركزياً فيها، ولذا فإنها أصبحت سهلة الاقتناص عصية البقاء وسهلة الضياع.. المجال السياسي تحول من هذا المنظور إلى نمط من «الفيتوقراطيا» (العبارة لفوكوياما) أي دائرة يتمتع فيها العديد من الفاعلين بما يكفي من السلطة لتعطيل القرار دون أن يتمتع أي منهم بما يكفي من السلطة لفرض هدف مشترك. فالذين بالغوا في الخوف من برنامج ترامب المعلن نسوا أن صنع القرار في الولايات المتحدة يخضع بالإضافة إلى آليات التوازن الدستورية المعروفة لآليات توازن داخلية وعالمية دقيقة ومعقدة، بعضها يتجاوز أطر السيادة الوطنية، وبعضها يتصل بتركيبة المجتمع الجديد الذي ولدته الثورة الصناعية التقنية الثانية. إذا كان تعريف السياسة الشائع هو أنها «فن الممكن»، فإن الممكنات في العمل السياسي أصبحت ضيقة ومحدودة.