سركيس نعوم

التطبيق الفعلي لاتفاق الطائف مع تعديل لصلاحيّات رئيس الجمهوريّة لا تُعيد ملامح النظام الرئاسي إلى لبنان لا يوجب الإقدام على إصلاحات أخرى لمدّة طويلة. والسبب أن تنفيذ الإصلاحات المقترحة في "الموقف هذا النهار" قبل يومين يحتاج إلى وقت كي يتعوّد عليها المواطنون. فضلاً عن أن تصحيح الأخطاء الجسيمة التي رافقت التنفيذ الاستنسابي للاصلاحات يحتاج إلى وقت لأنّها كرّست الطائفيّة وأيقظت المذهبيّة وحوّلتها صراعاً. علماً أن الهدف منها أساساً كان إلغاءهما. لكن المشكلة التي تواجهها البلاد اليوم هي في تجاهل "شعوبها" بل قادتها أن أحد أبرز أسباب المحنة التي تعيشها هو اعتبار الطائف منتهياً والبحث عن بديل منه، في حين أنه حُرِم فرصة التطبيق الفعلي لأسباب متنوّعة. فالبعض يتبنّى فكرة الحاجة إلى "مؤتمر تأسيسي" يضع نظاماً جديداً للدولة أو للشراكة في حكمها ينسجم معه. لكنه لا يجهر بذلك بل يلمّح إليه كلّما استوجبت التطوّرات ذلك. والبعض الآخر يرفض مؤتمراً كهذا ويتمسّك باتفاق الطائف، لا لأنّه كامل بل لأنه يؤمّن مصالحه راهناً ويسمح له بالانقضاض عليه لاحقاً عندما تتغيّر ظروف الداخل والخارج. والبعض الأخير يرفض "المؤتمر التأسيسي" أيضاً لكنّه يتمسّك به لأن "كحله أفضل من عمى" الأخير، وهو يعمل سرّاً وعلانية من أجل تغييره بالممارسة جرّاء تعذّر تغييره فعليّاً، وبالمطالبة بأمور ظاهرها حقّ وقد يكون جوهرها باطل مثل اللامركزية المنصوص عليها في الطائف. فاللبنانيّون في حاجة إليها فعليّاً لكن كل واحد من "شعوبهم" يحدّدها انطلاقاً من مصالحه المتناقضة مع الآخرين. فهي إداريّة حيناً وموسّعة حيناً آخر والاثنتان ضروريّتان في لبنان. لكن المضمون الذي يُعطى لهما يوحي أن المطلوب أكثر من ذلك. وسواء قصد أصحابه مسّ وحدة البلاد، وهي غير موجودة أصلاً ووحدة الشعب وهي غائبة فعلاً، أم لم يشاؤوا، فإنه يضعها على طريق الفيديراليّة التي لا يمكن أن تكون في لبنان المنقسم بل في العالم المتخلّف الذي هو جزء منه إلّا تقسيماً مقنّعاً. طبعاً الأسباب الموجبة دائماً لمشروعات كهذه هو تأمين الشراكة الفعليّة في حكم البلاد بين المسيحيّين والمسلمين وبين السُنّة والشيعة التي قد تكون إمّا غائبة أو منقوصة. لكن الشراكة (وأساسها الشركة) لا تحفظ وحدة وطن ولا تؤسّس دولة ولا تحميها من التقسيم أو التشرذم فالتفتّت. ما يحفظ ويحمي هو إقامة دولة تضم مواطنين لا "شعوب" متناحرة ومُتقاتلة وطوائف ومذاهب، وتساوي بينهم في كل شيء وتكون هي مرجعهم الوحيد، وتزوّدهم كل وسائل تغييرها إذا لم تقم بواجباتها حيالهم وفي مقدمها الديموقراطية والحريّات والمحاسبة على كل المستويات. وإذا لم يحصل ذلك فإن لبنان ذاهب إلى مؤتمر تأسيسي ليس فقط لأن "الشيعة" يريدون ذلك ضمناً أو علانية، بل لأن المسيحيّين يعملون له بغير إدراك (أو ربما بإدراك) عندما يصرّون على فيديراليّة بإسم اللامركزية، وعلى رئيس قوي يمارس صلاحيّات ما قبل اتفاق الطائف، وعلى شراكة طوائف، وعلى قانون انتخاب يقسّم الناس بدلاً من أن يوحّدهم. أمّا السُنّة فمطلبهم "الطائف" وهم لا يمانعون في إستعار الخلاف الشيعي – المسيحي الذي بدأت ملامح له تلوح في الأفق، إذ أنه يمكّنهم من التقاط أنفاسهم والاستعداد للمستقبل. في اختصار إن وحدة كل طائفة أو مذهب أو "شعب" في لبنان تعني تقسيم لبنان رسميّاً دويلات أربع مجموعة في شركة يتنافس أعضاء مجلس إدارتها على السلطة داخلها والمكاسب. وفي اختصار أيضاً أن وحدة الطوائف تنتهي دائماً بحروب في ما بينها.


في النهاية يرى بعض التغييريّين أن التطوّر العقلاني للصيغة اللبنانية لا بدّ أن يوصل، بعد تنفيذ سليم للطائف وتصحيح لما نٌفّذ منه، وبسبب انقسامه "شعوباً"، إلى تعديلها ولكن على نحو يرسّخ وحدة الدولة والبلاد ويُؤسّس وحدة "شعوبها" وفقاً لاقتراح طرحه قبل عقود الدكتور مانويل يونس رحمه الله ويقضي باعتماد المداورة في رئاسة الجمهوريّة مع نزع أثقال الطائفية والمذهبية عن المؤسسات الأخرى على تنوّعها وشموليّتها. طبعاً لا يمكن إقرار ذلك أو البحث فيه قبل معرفة مصير سوريا والعراق بل المنطقة كلها، وبعد صمود لبنان في استقراره ونجاحه في إعادة الحياة إلى مؤسّساته وبعض الوحدة إلى شعوبه. وهو يكون البديل من تقسيم مستحيل أو غير "عيّيش"، ومن كونفيديراليّة طوائف ومذاهب مُمارسة وغير رسمية وعائشة دائماً في صراع على البقاء.