محمد محفوظ

كلما انحبس العرب في انتماءاتهم الخاصة، ازدادت إمكانية الخروج من التاريخ والدخول من أزمة إلى أخرى، دون القدرة الفعلية على الخروج الفعلي من هذه المآزق والتحديات..

في زمن الفتن والاصطفافات الطائفية والمذهبية، يكون الانتماء إلى الطائفة أو القبيلة أو العشيرة هو بديل عن الانتماء إلى الدولة.. بحيث تكون كل القضايا والمسائل ترتبط بالانتماء إلى الدوائر السابقة الذكر، بحيث تكون هذه الدوائر بمثابة دوائر نهائية لا يمكن تجاوزها بأي شكل من الأشكال.. فتتحول هذه الانتماءات إلى انتماءات نهائية في كل شيء.

أسوق هذا الكلام أن كل هذه الانتماءات تتحول إلى كل شيء في حياة الإنسان الفرد في زمن الفتن والاصطفافات الطائفية والمذهبية.. فيتم عملياً تهميش دور الدولة، ويتم التغاضي عن مؤسسة الدولة.. ولا ريب أن تضخم دور الانتماء الطائفي والمذهبي في مقابل تهميش دور الدولة له انعكاسات مجتمعية عديدة.. ولعل من أبرز هذه الانعكاسات هو التعامل مع هذه الانتماءات ودوائرها بوصفها حواجز مجتمعية تحول دون الانفتاح والتواصل مع ما عداها من دوائر انتماء.. وبعيداً عن المضاربات الأيديولوجية المتعلقة بهذا الخيار وتداعياته المجتمعية، نقول للجميع لا بديل عن الدولة كمؤسسة حاضنة ومعبرة عن كل الحساسيات الاجتماعية..

والطائفة ليست بديلاً عن الدولة.. ولا يمكن أن يتحول الانتماء الروحي والثقافي كبديل عن مؤسسة الدولة.. فالطائفة تحتضن المماثلين عقدياً، أما الدولة فهي حاضنة لجميع شرائح وتعبيرات المجتمع المماثل عقدياً والمختلف.. وطبيعة الدولة وبنيتها المؤسسية قادرة على استيعاب الجميع..

لذلك فإن استمرار نهج الإعلاء من شأن الانتماء الطائفي في الأمة، يساهم في تمزيقها وتشتتها. ولو توجه كل العرب لطوائفهم، فإن هذا يفضي إلى نتائج خطيرة تتعلق بوحدة العرب ووجود نظام الدولة في مجتمعاتهم..

لذلك فإن من أبرز المخاطر التي تواجه المجتمعات العربية اليوم، هو تراجع مفهوم الدولة ومؤسساتها من نفوس العرب وعقولهم.. وتضخم مستوى الانتماء الطائفي والمذهبي، والتغني بهذا الانتماء بعيداً عن ضرورة الدولة في الاجتماع العربي المعاصر.. لهذا من الخطورة بمكان التقليل من شأن الدولة والمبالغة في إبراز الانتماءات الطائفية والمذهبية، وكأن هذه الانتماءات بديل عن الدولة الحاضنة لكل شرائح المجتمع، والمعبرة عن كل الحساسيات الثقافية واللغوية والاجتماعية..

ويبدو من خلال الأزمات والمآزق التي تعيشها العديد من المجتمعات العربية الراهنة، أن الخطوة الأولى في مشروع الخروج من هذه الأزمات والمآزق هو العودة إلى مفهوم الدولة والإعلاء من شأنها ودورها في المجتمعات الحديثة. والانتقال من الطائفة إلى الدولة يتطلب الاهتمام بالعناصر التالية:

تجديد وتطوير الثقافة السياسية، التي تحترم كل الخصوصيات الثقافية واللغوية لكل المجموعات البشرية، دون تحويل هذه الخصوصيات إلى سقف نهائي..

والثقافة السياسية التي لا تعيد الاعتبار للدولة ودورها ووظائفها في أي مجتمع، هي ثقافة سياسية تقف بالضد من مصالح كل المجموعات البشرية.. لا يبحث الإنسان عن دولة بمقاسه الخاص، لأن هذا قد يدفع الأمور للمزيد من الانقسام والتشظي، ولكننا نبحث عن مؤسسة الدولة القادرة وحدها على احتضان جميع فئات المجتمع والتعبير عن كل الحساسيات.. هي دولة تتعالى على انقسامات مجتمعها المذهبية والقومية واللغوية والعرقية دون أن تعادي هذه الانقسامات.. لهذا فإننا نعتقد أن الثقافة السياسية التي تعيد الاعتبار للدولة، هي القادرة على تصحيح بعض الاعوجاج الذي يعانيه بعض العرب على المستويين السياسي والاجتماعي..

الدولة لا تبنى من المماثلين عقدياً وثقافياً فقط، وإنما تبنى بكل أطياف المجتمع.. ومن يبحث عن دولة للمماثلين له، فإنه قد يحصل على دولة أيديولوجية خاصة غير قادرة على القيام بكل مسؤوليات الدولة.. أو سيبقى المجتمع يعيش الفصام النكد دون توفر القدرة الحقيقية على بناء دولة قادرة على إنهاض كل المجتمع سياسياً وحضارياً..

وأقول في هذا السياق إن المجموعة البشرية التي تحث على دولة بمقاسها فقط، فإنها تسعى لتأسيس مأزق حقيقي في الاجتماع العربي الحديث..

فالطائفة بكل مخزونها وآفاقها، غير قادرة على بناء دولة لجميع أطياف المجتمع..

لذلك فإن ثمة ضرورات سياسية واجتماعية عديدة في العديد من المجتمعات العربية المعاصرة، للخروج من شرنقة الانتماء الخاص سواء الطائفي أو القبلي أو العرقي إلى رحاب الدولة القادرة على تلبية مصالح الجميع دون افتئات على أحد..

ولعل من مآزق العرب الراهنة انحباس أغلب القوى السياسية الحية في أجندتهم الطائفية أو القومية أو العرقية، وتغافل الجميع عن ضرورة بناء دولة جامعة ومعبرة عن حساسيات الجميع.. ولا خروج لمآزق العرب الحالية إلا ببناء دولة قادرة وللجميع.. وإن التمترس خلف السقوف الخاصة لن يوصل العرب إلى غاياتهم المشروعة..

وكلما انحبس العرب في انتماءاتهم الخاصة، ازدادت إمكانية الخروج من التاريخ والدخول من أزمة إلى أخرى، دون القدرة الفعلية على الخروج الفعلي من هذه المآزق والتحديات..

فلا أمل للعرب إلا بالخروج من انتماءاتهم الخاصة والدخول جميعاً في رحاب الدولة المعبرة عن الجميع والمدافعة عنهم جميعاً..

وفي زمن انفجار كل الهويات الفرعية، نحن أحوج ما نكون إلى التقدم نحو الدولة. لأنها وحدها القادرة على إخراج كل المجتمعات العربية من سجون طوائفهم وعرقياتهم، إلى رحاب الدولة القادرة على احتضان الجميع والتعبير عن مصالح الجميع.