وحيد عبد المجيد

يزداد موقف تركيا صعوبة على المستوى الإقليمي كل يوم بعد إخفاقها في إيجاد موطئ قدم لها في معركة تحرير الموصل، والصعوبات التي تواجه اضطلاعها بالدور الرئيسي الذي تطمح إليه في معركة تحرير الرقة. فرضت حكومة بغداد «فيتو» على مشاركة تركيا في معركة الموصل. وتضغط «وحدات حماية الشعب» الكردية على واشنطن لمنعها من المشاركة في معركة تحرير الرقة، أو وضع سقف لدورها فيها. لذلك تبدو تركيا في مأزق بلغ ذروة جديدة في الأسبوع الماضي، نتيجة التقدم الذي أحرزته قوات النظام السوري وحلفاؤها في بعض المناطق التي تسيطر عليها المعارضة بشرق حلب. ويزداد بالتوازي مع ذلك القلق في أنقرة، لأن هذا التطور يُقلَّل أهمية ما بدا أنه بداية اختراق تُحقَّقه عبر عملية «درع الفرات» في الأسابيع الأخيرة.

لكن حين يتحول القلق إلى غضب عارم، يصبح خطره أكبر من بعض التحديات التي تواجه صانعي السياسة الخارجية في أية دولة. وهذا ما يحدث في تركيا، ويظهر في مؤشرات من أهمها الخطاب السياسي للرئيس أردوغان الذي يُفاجئ العالم من وقت لآخر بحديث عن حقوق تاريخية لبلاده في مناطق أخرى. فقد قال مثلاً، إن الموصل كانت ضمن أراضي الدولة العثمانية، وهاجم معاهدة لوزان بعد 93 عاماً على إصدارها (1923)، لأنها قلصت مساحة تركيا من 2.5 كيلومتر مربع إلى 750 ألف كيلومتر فقط!

وهذا النوع من الخطاب السياسي يُعَّد غرائبياً في العالم الراهن الذي طوى صفحة الحقوق التاريخية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية على الأقل. ولا يقلل من غرائبيته ربطه بمفهوم غامض هو الحدود العاطفية. فقواعد القانون الدولي الراهن لا تعرف ما يسمى حدوداً عاطفية، ولا تعترف بحقوق تاريخية، لأنها تقوم على احترام الحدود الطبيعية القائمة الآن مهما كانت العيوب فيها، إلا إذا اتفقت دولتان على تعديل في الحدود المشترك بينهما، أو إجراء تحكيم دولي تلتزمان بنتيجته. اللجوء إلى مفهوم الحقوق التاريخية الآن يضع تركيا في موضع من ينقلب على النظام العالمي برمته. وتبدو تركيا، والحال هكذا، غير قادرة على الاستخدام الأمثل لأوراق كان بإمكانها الاعتماد عليها إذا تعاملت مع الصعوبات التي تواجهها بشيء من العقلانية والهدوء. فلم يكن إشراك قواتها في معركة الموصل السبيل الوحيد لدعم موقفها في العراق بعدها. كان بإمكانها مثلاً الاعتماد على جماعات غير رسمية تخوض هاتين المعركتين بالوكالة، خاصة بعد أن حذت حذو إيران في هذا المجال، من خلال ميليشيات محلية صارت تمثل أذرعاً لها في سورية والعراق. فقد دعمت تركيا مليشيا «الحشد الوطني» في شمال نينوى بقيادة أثيل النجيفي وسلَّحتها ودرَّبتها. لكنها ارتبكت عندما أصدر القضاء العراقي قراراً في 19 أكتوبر الماضي بتوقيف النجيفي بتهمة الاستعانة بدولة أجنبية. كان بإمكانها أيضاً تأسيس فصائل من التركمان والقبائل السُنية في محيط الموصل قبل أن يدهمها الوقت، مثلما فعلت إيران التي أقامت عدة فصائل شيعية وتبنت ميليشيات أخرى، وجمعتها في إطار «الحشد الشعبي».

كما اعتمدت تركيا على وحدات من «الجيش الحر» في سورية عندما قررت فتح معركة «درع الفرات»، بعد أن سلَّحتها ودرَّبتها. لكنها اضطرت لإرسال قواتها للعمل معها وتسهيل مهمتها لأن حجمها أصغر من متطلبات المعركة.

ويدل ذلك على أن تركيا انتبهت إلى أن بإمكانها إعادة إنتاج تجربة إيران في الاعتماد على أذرع محلية، لكن في وقت متأخر على نحو لم يتح لها إعداداً كافياً لهذه الأذرع. لذلك تبدو أذرعها هذه أضعف من تلك التي استثمرت فيها إيران منذ سنوات طويلة. وهناك فرق آخر يصعب إغفاله، وهو أن قدرة تركيا على العمل في هذا المجال أضعف من إيران، وأن تركيبة النظام السياسي في أنقرة مختلفة عنها في طهران.

ولذلك دخل مشروع تركيا الإقليمي في مأزق تتطلب مواجهته تجديداً في منهجه، وليس تقليباً في دفاتر تاريخية قديمة يرفض العالم فتحها مُجدَّداً.