محمد السعيد إدريس

ترحيب تيار اليمين الأوروبي المتطرف بفوز دونالد ترامب في الانتخابات الرئاسية الأمريكية، كان يحمل رسائل مهمة للناخب الأوروبي مضمونها أن المشروع السياسي لهذا اليمين ذي الطابع الفاشي العنصري المعادي للمهاجرين وللمواطنين الأوروبيين من أصول غير أوروبية ليس بدعة، ولكنه مشروع العصر، فالعصر الراهن في منظور هؤلاء هو «عصر اليمين»، ولكنه عصر اليمين الشعبوي المرتكز على نوازع من إحياء الدعوات القومية والعنصرية، ومقولات من نوع أولوية الإبقاء على الدولة والسيادة والنظام العام حتى ولو على حساب الحقوق والحريات، وخاصة المتصلة منها بحقوق المهاجرين واللاجئين وطالبي العمل.

ومع تمادي الرئيس الأمريكي المنتخب في تصريحاته الانعزالية والعدائية كان هذا التيار اليميني الأوروبي يجد دعماً جديداً ومصداقية جديدة لدعوته، بل وانتصارات انتخابية على نحو ما حدث في فرنسا بفوز فرانسوا فيون بالجولة الأولى في الانتخابات التمهيدية للحزب الجمهوري الديغولي، عندها كان التساؤل: هل يمكن أن يفوز هذا المرشح في الانتخابات الرئاسية الفرنسية التي من المقرر أن تجرى في مايو/ أيار المقبل؟، بل هل يمكن أن تفوز مارين لوبن رئيسة حزب «الجبهة الوطنية» الأكثر رجعية وعنصرية ويمينية؟ لكن كان السؤال الأهم هو أين اليسار الفرنسي؟ وهل سيخضع الحزب الاشتراكي الحاكم ويستسلم لنتائج استطلاعات الرأي التي تتحدث عن تراجع بل وتدني شعبيته؟ 

مثل هذه الأسئلة التي باتت ممتدة من الولايات المتحدة إلى أوروبا وما تحمله من مؤشرات أزمة غير مسبوقة أو بالأحرى نتائج غير متوقعة لدعوة العولمة والليبرالية الجديدة ونتائجهما الكارثية على اقتصادات العديد من الدول، وجدت أصداءها الأقوى في أمريكا اللاتينية حيث يواجه تيار اليسار اللاتيني ضربات موجعة بدأت في البرازيل وامتدت إلى الأرجنتين، وأكملت دورتها بوفاة زعيم اليسار اللاتيني فيديل كاسترو.

كثيرون ممن تطوعوا للكتابة عن وفاة فيديل كانوا أسرى لسيطرة مفردات هذه الموجة الجديدة لتيار «اليمين السياسي» وانتصاراته. تجاهلوا عن عمد أن هذه الموجة اليمينية هي موجة ارتدادية معاكسة لتيار الليبرالية الجديدة التي وجدت أرضية انطلاقتها القوية في هيمنة سياسات العولمة الاقتصادية والسياسية وليس لسقوط الاتحاد السوفييتي وهزيمة اليسار العالمي.

انقلاب دونالد ترامب وتياره اليميني المحافظ جاء في الاتجاه المعاكس للعولمة ولتيار «الليبرالية الجديدة» والآن يحاول كتاب الغرب الرأسمالي تصوير ما يحدث من ارتداد يميني باعتباره سقوطاً نهائياً لتيار اليسار خاصة في أمريكا اللاتينية. 

هذه الدعوة وجدت ما يساندها في الانقلاب الذي جرى تدبيره ضد ديلما روسيف رئيسة البرازيل السابقة وزعيمة حزب العمال البرازيلي، وفي حملة التشويه المدبرة ضد الزعيم البرازيلي اليساري لويس ايناسيو لولا داسيلفا رئيس البرازيل الأسبق (2002 - 2010) الذي حقق أعظم نجاحات اقتصادية واجتماعية في تاريخ البرازيل، لمنعه من الترشح في الانتخابات الرئاسية البرازيلية عام 2018.

حاولوا طمس رونق الاحتفاء الشعبي والعالمي برحيل كاسترو أحد أهم رموز حركة التحرر الوطني في العالم كله وليس في أمريكا اللاتينية فقط تحت غطاء هزيمة اليسار اللاتيني, ونسوا أن أهم قادة دول أمريكا اللاتينية وقفوا بقوة وصلابة ضد الانقلاب الذي أطاح بالرئيسة العمالية البرازيلية ديلما روسيف، خاصة زعماء كوبا وفنزويلا وبوليفيا والإكوادور. فإذا كانت فنزويلا قد اعتبرت ما حدث للرئيسة روسيف «انقلاباً برلمانياً» فإن الحكومة الكوبية أعلنت بشدة رفض هذا الانقلاب، واعتبرت أنه «يشكل إساءة للشعب الذي انتخبها».

احتفى الشعب الكوبي بزعيمه الراحل، فقد طافت جماهير هذا الشعب برفاة فيديل أربعة أيام في كافة أنحاء البلاد، سالكة الاتجاه المعاكس لطريق «قافلة الحرية» التي قادها قبل 58 عاماً للوصول من مدينة سنتياغودي كوبا شرق البلاد، التي تعتبر مهد الثورة الكوبية، إلى هافانا العاصمة التي دخلها منتصراً في يناير/ كانون الثاني 1959، ووصلوا برفاته إلى مقبرة «سانتا ايفيغنيا» التي تضم ضريح بطل الاستقلال خوسيه مارثي في مدينة سانتياغودي كوبا. مسيرة أربعة أيام أراد الشعب الكوبي أن يؤكد فيها وفاءه لزعيمه الذي قاد ثورته وحقق انتصاراته.

وإذا كان زمن الانتصارات والثورات الشعبية وحركات التحرر العالمية قد توارى فإن الشعوب التي انتصر لها فيدل كاسترو لن تنساه، شعوب أمريكا اللاتينية عندما رفع راية التحدي مع رفيق دربه «تشي غيفارا» ولم يستطع الأمريكيون إسقاطه طوال ما يقرب من خمسين عاماً، وفي إفريقيا التي قاتل برجاله من العسكريين والخبراء المدنيين مرتين مرة من أجل تحريرها من الاستعمار ومرة أخرى من أجل تحريرها من التخلف والعمل من أجل تحقيق التقدم والتنمية والعدالة الاجتماعية خاصة في أنغولا وموزمبيق وغيرهما عندما أرسل عشرات الآلاف من الأطباء وأطباء الأسنان والممرضين والأكاديميين والمعلمين والمهندسين إلى القارة السوداء ليسهم في نهضتها، وعندما قاتل ضد نظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا المدعوم من الولايات المتحدة. لذلك لم يكن مستغرباً أن تكون هافانا من أولى المدن في العالم التي زارها الزعيم الإفريقي نيلسون مانديلا بعد إطلاقه من سجنه، وهناك وصف كاسترو بأنه «مصدر إلهام للشعوب المحبة للحرية» والأرجح أنه سيبقى هكذا رغم كل هرطقات الردة اليمينية التي تجتاح العالم الآن.