عادل درويش

القمة الخليجية في البحرين كانت تاريخية في وقت تحديات، ومتغيرات تعيد ترتيب موازين القوى بانتخاب دونالد ترامب رئيسًا لم تتضح سياسته الخارجية بعد.
أهم التطورات عودة بريطانيا إلى دورها التاريخي في التعاون مع حلفاء تربطها بهم صداقة ثلاثة قرون.
قبل وصولنا كمراسلين وستمنستر إلى البحرين تضمن مختصر قدمه مستشارو «10 داوننغ ستريت»، ورئيسة الوزراء تيريزا ماي، العبارات الدافئة والتطلع لأمل التعاون، والتزام بريطانيا تجاه الأصدقاء العرب. تذكرتُ بيت شعر إنجليزيًا مجهول المؤلف:
«Make new friends، but don›t forget the old، One is silver، the other is gold».
وترجمته بتصرف: إذا كان الصديق الجديد فضة، فتذكر أن أقدم الأصدقاء كالذهب.
A friend in need is a friend indeed»» مثل إنجليزي من القرن الثاني عشر يعني أن الأزمات ووقت الحاجة هي اختبار الصداقة الحقيقية. ففي أزمة تهديد عبد الكريم قاسم للكويت عشية استقلالها عام 1961 أسرعت بريطانيا بإرسال قواتها، ونشطت دبلوماسيتها مع الجامعة العربية، لتتبع القوات المصرية والأردنية وبلدان أخرى مشاة البحرية في الوجود «وإقناع» بغداد وقتها بسخافة الفكرة. ثم في أزمة غزو صدام حسين واحتلاله الكويت عام 1990، والدور المحوري الذي لعبته بريطانيا بزعامة مارغريت ثاتشر بالوجود عسكريًا، ودبلوماسية تأسيس تحالف دولي، وصياغة قرارات مجلس أمن تحت الفصل السابع. الأهم وقتها ضغوط ثاتشر على الرئيس الأميركي جورج هيربرت بوش بـ«عدم التردد»، حيث أرادت تيارات في الخارجية الأميركية التفاوض مع صدام أو البحث عن «حل عربي».. وكان لثاتشر دورها في تحرير الكويت.
التعاون في اتجاهين، حيث تكرر من رؤساء وزراء؛ كالعمالي توني بلير، ثم المحافظ ديفيد كاميرون، وأخيرًا السيدة ماي، تذكير اليسار الذي يريد تخريب العلاقات العربية - البريطانية بالتعاون الذي لا يُقدر بثمن الذي تقدمه المملكة العربية السعودية لمكافحة الإرهاب، حيث ضربت السيدة ماي أمثلة عملية في خطابها أمام مجلس التعاون.
ترى السيدة ماي في السيدة ثاتشر قدوة تحتذي بها، فهي من مدرسة المحافظين التقليدية التي تثمن الأصدقاء القدامى العرب.
فالسياسة الخارجية التقليدية لهذا التيار المحافظ البريطاني لها أبعاد أو دوائر استراتيجية جغرافية تاريخية، أهمها ثلاثة محاور تتداخل فيها العسكرية (مشتملة الوجود البحري، فالبحرية الملكية والأسطول، كانت وستظل عماد الدفاع البريطاني) مع الاقتصاد والتجارة وأمن الطاقة.
الأبعاد متداخلة لا يفضل أحدها على الآخر، هي المحور الأنغلو - أميركي. أميركا هي العضلات والقبضة، وبريطانيا هي العقل الذي يرتب ويرسم خريطة الطريق، والجنتلمان الذي يستطيع بدبلوماسيته أن يفتح أبوابًا تستعصي أقفالها على العضلات.
المحور أو الدائرة الثانية هي الصداقة التاريخية والتحالفات مع العرب، خصوصًا في منطقة الخليج، حيث وجدت البحرية الملكية منذ القرن الثامن عشر، وتحالفات دحر الخصوم من قوات بحرية معادية من قوى أوروبية أخرى.
الدائرة الثالثة هي بلدان الكومنولث التي تنتمي للثقافتين السياسية والاجتماعية البريطانية - وكثير من بلدانها ليس فيها رئيس دولة، إذ إن رأس الدولة هو الملكة - وتعتمد على التجارة، وتاريخيًا تداخل مصيرها مع بعضها البعض في الحربين العالميتين.
للأسف غابت بريطانيا عن الخليج لـ44 عامًا بسبب خطأ استراتيجي فادح ارتكبته الحكومة العمالية بزعامة هارولد ويلسون (1964 - 1972) بالانسحاب عسكريًا وسياسيًا إلى شرق السويس، وهو ما لم يرِدْه العرب وحاولوا إقناع لندن وقتها بالعدول عن الفكرة (وذلك بشهادة شخصية من المرحوم الشيخ زايد بن سلطان مؤسس دولة الإمارات العربية المتحدة، والمرحوم كمال أدهم المسؤول عن الاستخبارات السعودية وقتها). فلم يكن لبلدان الخليج المستقلة تباعًا وقتها قوات عسكرية تُذكر، وكان التهديد يأتي شرقًا من إيران، وشمالاً من إسرائيل، ونفوذ شيوعي سوفياتي من الشمال الشرقي، ومن الجنوب بالوجود في عدن، وتهديدات من آيديولوجية الثورجية القومجية التي كان يمثلها عبد الناصر وأتباعه من الغرب. والفراغ الذي تركته بريطانيا ملأه الأميركيون. بأخطائهم.
ولعل أهم المراجع للفترة 1969 - 1972 الكتاب الوثائقي للأمير فيصل بن سلمان، الصادر في لندن عام 2005 من وثائق سعودية وبريطانية وأميركية ثمينة (الرابط https: / / www.jstor.org / stable / 4311772?seq=1#page_scan_tab_contents).
ومن الأهمية تذكُّر أن الدبلوماسية الخليجية أيضًا قرأت المتغيرات الحالية بمهارة، خصوصًا مع صعوبة قراءة مدى الالتزام الأميركي في عهد إدارة الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترامب، نحو أمن الخليج والتهديدات للجانب العربي سواء من الإرهاب، أو من إيران.
فالقمة الخليجية دأبت منذ سنوات على دعوة رؤساء عالميين للمشاركة، مثل الرئيس الأميركي باراك أوباما، والأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون. كان الدور، حسب التفكير الخليجي، هو دعوة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، خصوصًا أن الاتفاقية النووية التي دفع الرئيس أوباما العالم إلى توقيعها مع إيران، لم تأخذ في اعتبارها قلق الجانب العربي من الخليج.
مع المتغيرات، قرأت الدبلوماسية البحرينية، بالتنسيق مع المجلس، الموقف سريعًا؛ فالصداقة العربية البريطانية تسبق الاتحاد الأوروبي بقرنين، وازدهرت وقت كانت القوى الأوروبية وأطماعها تهدد الاثنين؛ بريطانيا، والأصدقاء العرب.
وعندما دعا العاهل البحريني الملك حمد بن عيسى آل خليفة، أثناء زيارته الرسمية للمملكة المتحدة، رئيسة الوزراء ماي إلى المشاركة في قمة المنامة، وإلقاء كلمة فيها، رأت بريطانيا في الدعوة رسالة تضامن من الحلفاء والأصدقاء العرب معها، في وقت تتجمع فيه قوى أوروبية مناهضة لبريطانيا وتريد معاقبة الشعب البريطاني على قراره الديمقراطي بالخروج من الاتحاد الأوروبي.
السيدة ماي بدورها وضعت في خطاب الأربعاء نقاطًا أساسية بعودة بريطانيا إلى الخليج بعد 44 عامًا، والالتزام بأمنه، وأوضحت أيضًا مدى تفهُّم بريطانيا لقلق العرب، فالمشكلة ليست فقط في اتفاقيات تحدد مدى تقدم التكنولوجيا النووية الإيرانية، بل في نيات إيران السياسية ونشاطها التخريبي سواء في اليمن أو بعض بلدان الخليج.
وجود رئيسة الوزراء ماي، في المنامة، والحكمة الدبلوماسية في دعوتها وبريطانيا، كقوة استراتيجية، تكنولوجية عسكرية يعتمد عليها تذكرني بحكمة الشاعر جون ويبستر (1580 - 1634) في مسرحية الشيطان الأبيض «Lay this unto your breast: Old friends، like old swords، still are trusted best». وترجمتها بمفهوم المشهد: الصديق القديم، كسيفك الأول الذي تثق به وقت النزال.
أميركا هي القوة العسكرية الأكبر، لكنها تفتقد الحكمة والمعرفة والدهاء السياسي الذي عرفت به بريطانيا. ولذا يثق العرب بالأخيرة فإذا كان الصديق الأحمق أكثر ضررًا من الخصم الحكيم «فما بالك إذا كان الصديق القديم هو أكثر الجميع حكمة؟».