محمد السعيدي

كتاب تاريخ التسامح الديني في عصر الإصلاح لجوزيف لوكلير جاء في 1129 صفحة من القطع المتوسط وبخط دقيق ومتقارب، متضمناً خاتمة مفيدة تستحق وحدها الإفراد بالنشر والتعليق، ولعلي أستطيع القيام بذلك لاحقاً، لكن المهم لدي الآن هو أن الكتاب يؤرخ لفكرة ما كان يعرف بعصر الإصلاح في أوروبا أكثر العصور في التاريخ المروي ترويجاً لها، وكانت الدول التي انبثقت عن مشاريع الإصلاح أكثر الدول في التاريخ مناداة بها، ومع ذلك جاء الكتاب ليثبت أن التسامح الديني في أوروبا طيلة عصر الإصلاح كان محدوداً، وأن التجارب الناجحة لم تستمر، وأطولها عيشاً لم تكن نابعة من مبدأ التسامح الذي دعا إليه فلاسفة الإصلاح، بل لأسباب أُخَر كاحتياج النبلاء أو الساسة إلى ولاء بعض الشعوب في فترات مختلفة.
هذا مع ملاحظة أمرين، أحدهما: أن الكتاب مع أنه أُلِّف قبل 50 عاما تقريباً إلا أنه لم يتعمق سوى في قرنين من الزمان هما السادس عشر والسابع عشر، ولو أنه سبر الحقب التاريخية بعد ذلك لوجد كميةً من المصائب، ربما تحتاج حكايتها إلى ضعفي حجم الكتاب الذي ألفه عن ذينك القرنين، فالثورتان الإنجليزية والفرنسية وما حدث بعدهما من مآسٍ لم تنته إلا بعد الحرب العالمية الثانية، كل ذلك يعني أن العمر الحقيقي للتسامح الديني المزعوم مازال 72 عاماً فقط، وهو عمر قصير جداً بمقياس التاريخ لا يصح أن نغتر به، ولا أن نبني عليه أحكاماً إيجابية عن الحضارة الأوربية، فضلاً عن أن نؤسس من منطلقه دعوات لمراجعة أحكامنا الفقهية والعقدية، وهذا كله في حال تسليمنا بأن هذه الفترة القصيرة شهدت في أوروبا تسامحاً دينياً خالصاً، أي: كما كان يُطَالِب به فلاسفة الإصلاح في مطلع عصر النهضة الأوروبية، وهو المنطلِق من مبادئ الحرية والعدالة والمساواة، وليس التسامح المنطلق من النفعية الشخصية أو الفئوية كما كان حال التسامح في بولونيا مثلاً في عصر الإصلاح.
الملحظ الآخر: أن هذا الكتاب المهم لم يؤرِخ للتسامح الأوروبي خارج أوروبا، لذلك لم يتحدث عن الغزو الأوروبي للأميركتين مع أنه كان في القرنين اللذين اهتم بهما المؤلف، ونَضم إلى هذا الملحظ: أن المؤلف اعتنى بالتسامح الديني بين المسيحيين وبعضهم وبينهم وبين اليهود فقط، أما التسامح بين النصارى والمسلمين فلم يتعرض له، كما لم يتعرض للصراع بين المسلمين والأتراك مع أن طرفاً من محاكم التفتيش في إسبانيا والحروب العثمانية الأوروبية واقعة ضمن العصر الذي أرخ له الكتاب، ولو أنه فَعَل كل ذلك لانتهى إلى النتيجة نفسها التي وصل إليها في تأريخه لقرني الإصلاح الأوروبي، وهي أنه لا وجود حقيقيا للتسامح الديني إلا في أذهان فلاسفة الحرية. 
ولو أننا سبقنا العصر محل الدراسة، وحاولنا التأريخ للتسامح الديني منذ نشأة المسيحية في ظل الدولة الرومانية التي أصبح الأوروبيون يُطلِقُون عليها فيما بعد لقب [المقدسة] فإننا سنجد أولاً: مرحلة اضطهاد المسيحيين وقتلهم وحرقهم على أيدي قادة الرومان حتى عام 313، حيث صدر مرسوم غالريوس، ثم اعتنقت الدولة الرومانية المسيحية رسمياً بعد ذلك بسنوات، لكنها انتقلت إلى اضطهاد الموحدين من النصارى وفرض عقيدة التثليث بالقوة، حيث أصبحت هي العقيدة السائدة، وحين لم تستطع الدولة الرومانية التماشي مع مبادئ الحب والرحمة والسلام التي يبدو أنها سلمت من التحريف حتى القرن الرابع الميلادي أرادت التحريف في هذه المبادئ أيضا، فأسس لها القديس أوغسطين [تـ 430 م] نظرية الحرب العادلة التي استطاعت بموجبها تبرير حروبها التوسعية وبطشها بالأمم الأخرى، [لا يخفى أن الإدارة الأميركية أعادت إحياء هذه النظرية لتبرير احتلال العراق]، وبعد نشوء الدولة البابوية في القرن السابع الميلادي لم تعد الكنيسة في حاجة إلى الأباطرة كي يضطهدوا الأمم الأخرى لأجلها، فقد أصبحت قادرة على ممارسة ذلك بنفسها، وأصبح الأباطرة بحاجة إلى الكنيسة لتبرير ما يقومون به من اضطهاد تجاه الآخرين. 
وحين نحاول سبر التسامح الديني في الأمم الأخرى بعيداً عن التاريخ المسيحي، أي في الديانة البوذية التي انتشرت وتعددت مذاهبها كثيراً في آسيا بدءا بالهند وانتهاء باليابان، فإننا نجد الديانة البوذية تلهج كثيراً بالتسامح إلا أنهم لا يطبقونه إلا في أحوال ضعفهم السياسي والعسكري، أو في أحوال احتياجهم إلى الآخرين، أما في أزمان قوتهم فالأمر يتغير لديهم كثيراً، ولا نحتاج إلى الإغراق في التاريخ، ونحن نرى ما يحدث في البلاد المعروفة تاريخياً باسم بورما اليوم والتي تغير اسمها فجأة إلى ميانامار، وما يقاسيه المسلمون البورميون منذ 60 عاماً من شتى ضروب الاضطهاد على أيدي البوذيين الذين سلمت إليهم بريطانيا الحكم في تلك البلاد ليقوموا بأبشع جرائم القتل والتعذيب والتهجير حتى يومنا هذا على مسمع من العالم الذي يتغنى بالتسامح دون أن نرى له أي تحرك في سبيل إيقاف هذه المآسي التي يرتكبها البوذيون الميانامار تجاه المسلمين. 
والمثير للسخرية حقاً: أن نرى بعض الشغوفين بخدعة التسامح الديني يعزون ما يحصل ضد مسلمي بورما إلى العنصرية العرقية والإقليمية كونهم من أعراق الروهنجيا الهندية وليسوا من الأعراق الصفراء التي ينتمي إليها المياناماريون والفيتنام واللاووسيون، والحقيقة أن صاحب هذه المغالطة لا يمكنه أن يفسر الفتاوى البوذية من قساوسة بوذيين تؤيد ما تقوم به السلطات العسكرية، ولا يفسر دعم الدول البوذية المجاورة لميانمار أو صمتها عما يحصل من العساكر البوذيين ضد المسلمين، وأعني جيداً تايلاند ولاوس وفيتنام واليابان والصين، بل لم نسمع في المحافل الدولية أي إدانة من المجامع البوذية العالمية لما يحدث هناك، وإن كان ثَمَّ شيء فهو بصوت منخفض ولا يمثل احتجاجاً مناسباً في قوته لما يحدث من جرائم باسم البوذية. 
المهم في الأمر: أن التسامح الديني بين جميع الأمم فكرة خيالية لم تحدث في أي حقبة من التاريخ، وإن حدثت فهي لفترة زمنية محدودة الزمان والمكان، وغالباً ما تكون لأغراض سياسية أو تجارية وليست دينية. 
ولذلك فأنا ما أزال أجهل بل وأستغرب كثيراً من انهزام عدد لا بأس به من كتاب المسلمين ومفكريهم أمام هذه الفكرة، ورجوعهم إلى الدين الإسلامي ليغيروا بعض الأحكام الفقهية المُسَلَّم بها لدى الأمة كقتل المرتد وتعزير المبتدع وهجره، والمنع من إشاعة الفكر المخالف لأصول الدين، وكذلك جهاد الطلب، كل ذلك اغتراراً بفكرة التسامح التي أطلقتها أوروبا ولم تستطع التقيد بها، بل لم تشأ التقيد بها، لكنها استخدمتها كأحد الأسلحة الفكرية لغزو العالم ثقافياً ومن ثَمّ عسكريا. 
إن التاريخ يثبت بما لا يدع مجالاً للشك أن الأمم التي تنخدع بدعاوى التسامح الديني لا تلبث أن تذل وتُهْزَم وتستباح بيضتها، ولنا في التاريخ الإسلامي خير مثال، فالاجتياح الصليبي لبلاد الشام وشمال العراق وشمال مصر واحتلال القدس في القرن الخامس الميلادي لم يكن، بل لم يكن ليكون، لولا انتشار المبادئ البوذية والبراهمية حول التخلي عن الدنيا ورياضة النفس والاتحاد بالكون وحلول اللاهوت بالناسوت عن طريق الطرق الصوفية التي بدأت تستقطب العقول في تلك الأزمان. 
والأمر كذلك في الاجتياح المغولي في القرون الهجرية السادس والسابع والثامن، لقد كان اجتياحاً لأمة بلغ فيها الاغترار بالتسامح أقصى درجاته حتى جاءها العذاب من أكبر دعاة التسامح الديني في التاريخ حتى اليوم، وهو جنكيز خان الذي تعتبر تعاليمه وتنظيماته في التسامح الديني مثار عجب وإعجاب الكثيرين، ومع ذلك قتلت جيوشه 40 مليون مسلم، حتى قال وهو يبرر جرائمه "أنا عذاب الرب، فانظر ماذا فعلتَ أنت كي يأتيك عذابه".
ولم يكن الاجتياح الاستعماري ليكون أيضا في العالم الإسلامي لولا غرق المسلمين في تلك الأفكار الشرقية بغلبة الفكر الصوفي المنحرف على الأمة الإسلامية. 
لذلك كانت الأحكام الإسلامية تعاملاً مع واقع بشري جربته الأمم كلها عبر تاريخها، خلاصته سحق المتسامح وعدم رحمته، فلم يكن الإسلام ليرضى هذه النهاية لأتباعه فجاءت شرائعه حامية لهم، ولم يكن لأحد أن يستبيح بيوتهم طوال التاريخ لولا نكوصهم عما رسمه الله ورسوله لهم، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال (إذا تبايعتم بالعينة وأخذتم أذناب البقر وتركتم الجهاد في سبيل الله سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه حتى تراجعوا دينكم).