محمد آل الشيخ 

هناك علاقة متضادة وبحدة بين النور والظلام، والعلم والجهل. الإنسان المتنور، الذي يُحكّم عقله، ويقرأ، ويمحص، لا يمكن أن يكون تكفيريا، فالتكفير يعني الإقصاء، وادعاء تملك الحقيقة، التي يرى ألا حقيقة أخرى سواها. لذلك تجد أن الخوارج الأوائل اختصوا بخاصيتين: الجهل والتكفير. فالبيئة التي أنتجت الخوارج -آنذاك- كانت الصحاري والقفار والأرياف المعزولة والبعيدة عن مراكز التحضر والمدنية، وبالتالي العلم، حيث ينتشر في تلك الأصقاع الجهل، وضيق الأفق، ويغلب على طباع الفرد الهمجية والتوحش، فيسهل شحنهم وإذكاء روح العنف والشراسة فيهم، ليصبح كل ما يحتاجون إليه مبررا دينيا ليُعملوا السيف في رقاب مخالفيهم، والمبرر الجاهز كان رجم من يختلفون معهم بالردة والتكفير.

من هنا يمكن القول، وبعلمية، تدعمها الشواهد التاريخية، إن حركة الخوارج، كانت بالمعيار العلمي أول حركات (التأسلم السياسي)، التي ثارت على السلطة الحاكمة حينها، وألبسوا تمردهم لباسا دينيا -(لا حكم إلا لله)- تماما كما تفعل جماعة الإخوان المسلمين، والسروريين، وكذلك القاعدة، وداعش.

المسلمون الأوائل استطاعوا مواجهة (الخوارج) بالسيف من جهة والكلمة من جهة أخرى. والسيف يعني بلغتنا (الحل الأمني)، والكلمة كانت (التنوير) من خلال الحوارات والنقاشات، التي حفظ لنا بعضها التاريخ مثل حوار ابن عباس معهم مثلا. ولأنهم كانوا في الغالب جهلة، ويفتقرون للمُنظّر القادر على التقعيد والتأصيل، كان القضاء على جذور حركتهم ونظرياتهم الثورية سهلا يسيرا.

حركات التأسلم السياسي المعاصرة، استفادت من تجارب أسلافهم الأوائل، فانقسموا تكتيكيا إلى جناحين: جناح فكري تنظيري، يتبرأ من العنف، ويشجبه علنا، ويدعوا إلى الحوار بالحسنى، ويمتطي في خروجه الكلمة والقلم. أما الجناح الآخر، وهو الجناح الموازي والمكمل، فينحو إلى الشدة والقسوة والتطرف، ويتلمس كل السبل، بما فيها العنف لتحقيق أهدافهم.

هذان الجناحان، وإن بدوا في المظهريات، واللغة المستخدمة في خطابهم السياسي، مختلفين، إلا أنهم في الغاية النهائية متفقون ومنسجمون تمام الانسجام. وهنا مكمن خطورتهم، واختلافهم عن أسلافهم الخوارج الأوائل، حيث انتهج أولئك السيف وأهملوا الكلمة والقلم، بسبب أنهم جهلة، لا تحسن غالبيتهم العظمى القراءة أو الكتابة، وهم بلا نظريات مدونة، فكان القضاء عليهم أمرأ متيسرا.

أما خوارج زماننا، فقد مارسوا إلى جانب العنف، الدعوة إلى منهجهم بالكلمة والقلم؛ فكان من أهم أعلامهم «أبو الأعلى المودودي» و»حسن البنا» و»سيد قطب» و»محمد سرور زين العابدين» و»القرضاوي»، وعشرات غيرهم ممن عملوا بجهد لا يكل ولا يمل على تثوير الإسلام، وتحويره من كونه عقيدة بين الإنسان وربه، إلى تكريسه كدعوة حزبية سياسية ثورية، تتعامل مع مخالفيها بكل أدوات السياسة والميكافلية.

لذلك يمكن القول إن نجاح المسلمين الأوائل في القضاء على الخوارج حينئذ بالسيف، لا يعني أن بإمكاننا القضاء على الخوارج الأواخر بذات الوسيلة فقط، فقواعد اللعبة اليوم اختلفت عن الماضي، وهذا ما اكتشفناه متأخرين، حينما تمت مواجهتهم إضافة إلى السيف، بالكلمة ومقارعة الحجة بالحجة، فلم يستطيعوا الصمود، وها هو نجم صحوتهم المزعومة يوشك على الأفول غير مأسوف عليه.