إميل أمين 

مرة جديدة يضرب الإرهاب الأعمى أرض المحروسة، في واحدة من أسوأ العمليات دونية، حيث وجهت يد الغدر إلى مصلين في دار عبادة، ما يعني أن الإرهاب تجاوز كافة الحدود، وتخطى كل السدود.
في قلب القاهرة اهتزت أرجاء الكنيسة البطرسية باعتداء آثم أوقع عشرات القتلى غير المصابين من أقباط مصر، وقبل ذلك بساعات قليلة كانت الجماعات الظلامية عينها، تفجر قوة أمن للشرطة المصرية أمام أحد المساجد في شارع الأهرام الشهير.
يعن لنا التساؤل هل كان الأقباط هم المقصودين لذواتهم وأنفسهم أم الأمر أوسع وأعرض من ذلك بكثير؟
رغم لحظات الألم ومرارة الفقدان التي أصابت الأسر المنكوبة، فإن الوعي الجمعي لأقباط مصر أدرك أن هذا أمر خارج عن عادات وطباع المصريين وعن مسلمي مصر، فعلى مدى أربعة عشر قرناً من الزمان عاش الأقباط والمسلمون معاً، نعم حدثت بين الحين والآخر مناوشات أو جرت خلافات، لكن لم يصل الأمر بالمطلق إلى حد تفجير كنيسة وبداخلها مصلون.
الذين استمعوا إلى الكلمات التي تحدث بها بابا الأقباط تواضروس الثاني أدركوا أن الرجل وقر لديه أن مصر هي المستهدفة قبل أن يكون أقباط مصر هم هدف الإرهابيين، وأن الذين أقدموا على هذه الفعلة النكراء، يريدون تحقيق ما لم يتحقق لهم قبل ثلاث سنوات عندما أحرقوا نحو مائة كنيسة ومنشأة للأقباط في مصر، وساعتها قال البابا عينه «وطن بدون كنائس أفضل من كنائس بدون وطن». يريدون شق الصف المصري، وتهديد سلامة النسيج الاجتماعي الذي ظل عصياً على الفتنة مئات السنين.
أفرز الحادث الأليم كثيراً من القراءات الاولية، وفي مقدمتها القول بأن مصر مستهدفة بالفعل، وهناك من لا يرضيه أبداً أن يشتد عودها أو تخضر أوراقها، ناهيك عن أن تينع ثمارها وتنضج في طريق النمو والازدهار والتقدم.
ذات مرة تحدث كاتب مصر الكبير الراحل توفيق الحكيم بالقول إن تحت الجلد المصري هناك أكثر من ستة الاف سنة من الحضارة، هذا المعين الفكري والأخلاقي دائماً ما يتدفق كالأدرينالين في الجسم البشري في أوقات الملمات، وقد رأينا عبر الأيام القليلة المنصرمة حالة من حالات الرفض المصري الواضح من مسلمي مصر قبل مسيحييها لما حدث، وإن بقيت جيوب إرهابية فكرية مؤدلجة تستكثر أن يتمتع المصريون بالوئام والسلام الداخلي.
الاعتداء الغاشم بالأحزمة الناسفة على المصلين في كنيسة أمر ليس من الإسلام في شيء، بل بعيد كل البعد عن جوهر الإسلام السمح، الذي نهى عن قطع شجرة أو هدم بيعة أو إزعاج ناسك في محرابه، لا اقتحام كنيسة تغص بالمصلين.
يستلفت النظر أن ما جرى لم يكن عملاً عشوائياً، إذ أنه في غالب الأمر تدبير على أعلى مستوى من جهات خارجية لها عقول خبيثة تعرف ماذا تفعل.. إن اختيار تاريخ الحدث أمر جهنمي لا يخلو من دلالات قاتلة تتجاوز مصر والمصريين إلى العالم برمته.. الذين اختاروا تفجير الكنيسة رتبوا أجندتهم على موعد يوم المولد النبوي الشريف.. اليوم الذي يعد عيداً واحتفالاً لكل المصريين.
الشاهد أن كافة القراءات الطيبة والنتائج غير المباشرة الإيجابية التي خلفها الحادث، لا تعفي من تساؤلات جادة وجدية عن عدة أمور، ربما يكون في مقدمتها التساؤل حول مآل وأحوال العالم العربي في مواجهة الإرهاب القائم والقادم.
بعد انتهاء الحرب في أفغانستان نهاية ثمانينات القرن الماضي عانى العالم العربي معاناة بالغة من نفر أطلق عليهم «العائدون من أفغانستان»، وساعتها قيل إن هؤلاء درسوا في مدرسة للإرهاب، الآن نحن في مواجهة استحقاقات خريجي جامعات «داعش» في سوريا والعراق وليبيا، وعليه فهل جرى الاستعداد لملاقاة هؤلاء قبل أن يحولوا الأوطان إلى جحيم مقيم؟
تفخيخ الكنيسة البطرسية يعزز مسيرة «الدم المصري» المراق من أجل غد أفضل للمحروسة.