فهمي هويدي

انتصر الموت في حلب. وهلل الذين أغرقوا المدينة في الدم، وقصفوها بوابل من البراميل المتفجرة والصواريخ الفراغية والارتجاجية في حين أطلقوا المجنزرات والشبيحة لكي تجهز على بقايا الحياة فيها. ليس ذلك أسوأ ما في الأمر، لأننا جميعا وقفنا ذاهلين ومعقودي الألسنة في مشهد عجز عربي أعاد إلى الأذهان صفحة الموت والخزي التي شهدتها بغداد حين اجتاحها المغول في القرن الثالث عشر الميلادي. وهي الواقعة التي وصفها ابن الأثير صاحب «الكامل في التاريخ» بالحادثة العظمى والمصيبة الكبرى التي عقمت الأيام والليالي عن مثلها. حتى أنه وهو يستحضر ما جرى فيها من خراب ودمار ودماء قال: «من الذي يهون عليه ذكر ذلك؟ فيا ليت أمي لم تلدني ويا ليتني مت قبل حدوثها وكنت نسيا منسيا».

الهول الذي فصل فيه المؤرخون عن خراب بغداد لم يختلف كثيرا عن مضمون التقرير الذي أصدره مكتب حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة يوم ١٣ ديسمبر الحالي، وذكر فيه مشاهد الإبادة التي تعرض لها المدنيون في شرق حلب على أيدي المغول الجدد. الذين اقتحموا البيوت وقتلوا من فيها ولاحقوا الفارين من موت، ولم يرحموا فيهم شيخا ولا صبيا ولا امرأة. حدث ذلك في حين دمرت المستشفيات وأبيدت طواقمها كما خربت المدارس والمرافق والملاجئ، ولم يترك الطيران الروسي بناية أو عمرانا إلا استهدفه. وفي حين سيطر الروس على الجو فإن الميليشيات العراقية واللبنانية والأفغانية مع عناصر جيش الأسد وشبيحته، هؤلاء جميعا تولوا مهمة الإجهاز على من نجا من الموت على الأرض.

ما يبعث على الخزى والأسى، أنه حين كان أهالي حلب يستصرخون الضمير العربي والإسلامي والدولي فإن الجميع صموا آذانهم، وشغلوا بالمحادثات وإصدار البيانات وعقد الصفقات السياسية. حتى العالم العربي لم تخرج فيه مظاهرة تعبر عن استنكار ما يجرى أو التضامن مع الشعب الذي يتعرض للإبادة، ناهيك عن أن الأنظمة العربية اختلفت مواقفها وشغلت بمشكلاتها الداخلية، الأمر الذي أخرجها من دائرة التأثير فضلا عن الفعل.

ما جرى في حلب يمثل جزءا من الكارثة الكبرى التي تشهدها سوريا منذ نحو خمس سنوات، حين خرجت الجماهير في تظاهرات سلمية في درعا داعية إلى إصلاح النظام، وحين جاء الرد من خلال القمع والشبيحة فإن الحالمين بالتغيير لم يجدوا مفرا من المطالبة بإسقاط النظام. وكانت حصيلة المواجهات التي تحولت إلى صراع مسلح منذ ذلك الحين وإلى الآن ما يلى: قتل ما بين ٤٠٠ ألف ونصف مليون سوري. إصابة ثمانية ملايين بإعاقات جسدية وتدمير ثلث مدارس سوريا وكل مدارس شرق حلب ــ نزوح نصف الشعب إلى مناطق أخرى داخل سوريا وخارجها ــ ١٣ مليون شخص أصبحوا بحاجة إلى مساعدات بينهم ٥ ملايين و٨٠٠ ألف طفل ــ وجود أكثر من مليون شخص تحت الحصار و٧ ملايين و٩٠٠ ألف أصبحوا يعيشون في مناطق يتعذر الوصول إليها ــ ٨٠٪ من السوريين أصبحوا تحت حد الفقر.

إن سقوط حلب بين أيدي المغول الجدد يمثل ضربة موجعة حقا، لكنه لا ينهى القتال الدائر، الأمر الذي يعنى أنه سوف يتواصل في مناطق أخرى. من ثَمَّ فإن الكارثة ستظل مستمرة، لكن ما يدهشنا ليس فقط ذلك الصمت المخيم على العالم العربي إزاء ما يجرى، وإنما أيضا أن يوصف الحاصل في سوريا بأنه حرب ضد «الإرهاب»، وكأن ممارسات النظام السوري بريئة منه، أو أن يوصف في بعض وسائل الإعلام العربية بأنه تحرير، في حين يعلم القاصي والداني أنه تمهيد لبسط النفوذ الروسي والإيراني الذي لولاه لسقط نظام الأسد منذ سنوات.

لا أبرئ الجماعات المقاتلة الأخرى من المسؤولية عن تدهور الأوضاع في سوريا، لأن وجود أغلبها يظل جزءا من الكارثة، لكن ذلك لا ينبغي له أن يصرفنا عن حقيقة الإرهاب الوحشي الذي مارسه النظام السوري الذي كانت نماذج الإرهاب الأخرى من أصدائه.