محمد علي فرحات

حلب، مأساة أهلها، ولا معنى للكلام على حكم التاريخ والانهيار الأخلاقي واسترجاع سقوط مدن شرقية. نذكر غزو المغول بغداد وإحراقهم مكتباتها وليس من يقرأ ذكريات الآخرين عن سقوط القسطنطينية. التاريخ ليس كتاباً واحداً. كل شعب، بل حتى كل فرد، له كتاب التاريخ الخاص به. حلب العار، ولكن، قبل اكتمال سيطرة النظام وحلفائه، يجب القول إن المأساة محطة في الحرب السورية المديدة وفي صراع الإرادات الكبرى على بلد له جغرافيته المؤثرة: من يهتم بالشعب السوري حقاً؟ ما يحدث هو رفع الغطاء عن المدينة وسقوط سكانها وعمارتها في عراء الموت: عندما رغب ستيفان دي ميستورا بسحب «جبهة النصرة» (أو «فتح الشام») لم يستجب أحد. فشلت المحادثات الروسية- الأميركية حول التفريق بين مسلح معتدل وآخر متهم بالإرهاب، فاضطر المسلحون إلى التضامن، وترافق ذلك كله مع صمت تركيا التي دعمت أخيراً انسحاباً آمناً للمسحلين (مع المدنيين من باب رفع العتب) وتباحثت في ذلك مع حلفائها الجدد، الروس، في رعاية واشنطن الدائمة الحضور. بهذا، تسدل الستارة على حرب شرق حلب، لكن المأساة لأصحابها المدنيين وحدهم، وعلى الروس والإيرانيين أن يتفكروا في ثمن سيدفعونه يوماً ما.

إنهم مسؤولون، من دون تبرئة النظام ومعارضته المسلحة، ولكن، كيف لدولتين كبرى وإقليمية أن تتقدما للشعب السوري أو للنظام الحاكم الذي سيخلف النظام الأسدي؟ بل كيف تتقدمان إلى العالم تحت وطأة هذه المأساة؟

ليس الوقت لكلام بارد على الجرح الساخن. من يقدر على ذلك وسقوط المدينة يصدم الذين توقعوه قبل الذين فوجئوا؟ لغة خشبية تسود لكنها بريئة ودامعة، ولا مكان للسياسة بما هي واقع وعقل وبحث عن الممكن والمستطاع، ففي وطأة المراثي المصحوبة بالمواعظ المتعجلة، تتقطع الذاكرة وندخل دوامة التكرار والبدء من الصفر، فقط لأن عناصر طارئة، عواطف طارئة، ترمي التجارب في بئر النسيان، وتعود الأفكار نفسها لتثقل عقولنا فنكرر تجربة سبق أن جربناها.

هل نذكر سقوط المدن، دائما بدعوى إنقاذها؟ هل نذكر فتح المدن، دائماً بدعوى ضمها، نحن أهل النعمة والصلاح؟ هل نذكر غطاء التاريخ المتعارف عليه حين يخفي الواقع والوقائع؟ هل نذكر الوعي الذي تحجبه الأصوات العالية؟ هل نذكر المأساة، بل الجريمة، الضائعة في نسبيات تتصارع أو تبرر بعضها بعضاً؟

الحروب تبدأ ولا تنتهي. منذ الحرب العالمية الثانية لم نشهد نهاية أي حرب، باستثناء فيتنام التي عجز الأميركيون عن تفريق شعبها إلى شمالي وجنوبي كما فعلوا في كوريا. ولنا في الحرب الأهلية اللبنانية الملتبسة خير مثال على مصير المعارضات المسلحة في البيئة العربية.

جرى إنهاء هذه الحرب قسراً بإرادات إقليمية ودولية في «اتفاق الطائف» الذي رسم الإدارة السياسية الحالية للبنان. لكن قادة الحرب والمتعاونون معهم من رجال الأعمال والوصاية السورية، احتلوا مواقع الدولة وحوّلوا الحرب المسلحة إلى صراع سلمي على النفوذ والمال، بما في ذلك تمثيلهم مصالح إقليمية وعالمية في الوطن الصغير.

ولا يزال لبنان ضحية الحرب الأهلية في وجهها السلمي، ولم يتح لقواه المدنية أن تحتل مواقع تستحقها في إدارات الدولة، ويتجلى ذلك في الأزمات التي تصاحب أي حدث سياسي مثل تأليف حكومة أو انتخاب رئيس جمهورية، بل أي خلاف على تعيين موظف في رتبة رئيسية. ووصل الأمر بالحروب الباردة إلى حرمان الشعب اللبناني من الماء والكهرباء وإغراقه بالنفايات، ليس من إهمال وإنما لخلاف على منافع حلّ الأزمات المعيشية وغيرها.

وليس سلام لبنان الهشّ في أيامنا هذه، سوى تلبية لحاجة القوى المتحاربة في الداخل السوري والعراقي إلى منصّة سلمية تتصل من خلالها بالعالم، ولولا ذلك لاسترجع القادة اللبنانيون حربهم الساخنة فلا يردعهم رادع كما كان أمرهم من قبل.

أتكون سورية سائرة بعد حربها المديدة إلى ما يشبه الانتقال من القتل والتخريب إلى الصراع على المغانم بين القادة أنفسهم؟ يصعب الجزم لأن حروب الأهل في لبنان عشائرية على رغم مسمياتها الطائفية، أما في سورية، فمعظم المجموعات المسلحة التي خطفت الثورة يستند إلى أيديولوجيات دينية تتجاوز حدود الوطن السوري إلى «أستاذية العالم»، وهذا التعبير من الأدبيات الأثيرة لجماعة «الإخوان المسلمين».

الأيديولوجيات الدينية صادرت المعارضة السورية وتكاد تحولها إلى شكل بلا مضمون. لكن سورية تحتاج بالضرورة إلى معارضة ليتحقق نهوضها الوطني. وبذلك، يطرح السؤال: ما هي الدروس المستفادة من مسار المعارضة المتعثر؟ وما مواصفات الشخصيات والقوى الاجتماعية والسياسية المؤهلة للمعارضة الآن وفي المرحلة المقبلة؟ هذه المعارضة يحتاجها العالم أكثر من حاجة الشعب السوري، لأن قوى الإقليم والعالم الرئيسية هي التي سترسم صورة سورية الغد بعد انهيار النظام ومعارضته الحالية سواء بسواء.