علي سعد الموسى

قال لي بنبرة حادة: لماذا لم تكتب عن حلب وعن قصتها الدامية المأساوية؟ والجواب القصير أنني كنت غائباً لأسبوع من الكتابة لظرف أسري خاص. لكن الجواب الطويل يكمن في مأساة هذا العقل العربي، بل المسلم كي نكون أكثر وضوحاً وشجاعة في تحليل المأساة. لو أننا تفرغنا لملاحقة أحداث الدماء على مدن الخارطة الإسلامية لما كفى الكاتب من بيننا خمسة مقالات في اليوم الواحد على الأقل. وهنا تعالوا معي لقراءة حقيقة واضحة في نقد هذا العقل الذي حول هذه الخريطة إلى مقابر متحركة، هنا المقارنة والمقاربة: كنت بالصدفة ليلة الانتخابات الأميركية ساكنا في غرفة فندقية في آخر وأقصى مدن الشمال الغربي الأميركي وقد سمح لي فارق التوقيت أن أراقب نهاياتها قبل حلول الساعة التاسعة مساء. كنت أشاهد نتائج الولايات الحاسمة على الساحل الشرقي والغرب الأوسط وهي تقرر فوز دونالد ترمب برئاسة القوة الأعظم على وجه الأرض، وكل هذا السباق التاريخي يبدأ وينتهي في ظرف اثنتي عشرة ساعة فقط. وعند العاشرة مساء بالتقريب تتصل هيلاري كلينتون بالرئيس المنتخب وتهنئه بهذا الانتصار وتعترف بمرارة الهزيمة. في نهار واحد وحيد، ذهبت أميركا إلى صناديق الاقتراع فيما يقرب من مليوني طابور دون أن تأتي لنا الأخبار من هذه الطوابير بقصة جنح واحدة. كان يوم عمل مكتملا لم يغب فيه طالب عن مدرسة أو جامعة ولا موظف عن مهمته ومكتبه. في ظرف ساعات نهار واحد وحيد، وبكل هذه السلاسة والسلم الأهلي، غيرت أميركا ثوبها السياسي لا في البيت الأبيض، فحسب، بل حتى في آلاف المجالس البلدية وبرلمانات الولايات المختلفة وحكامها ومرشحيها إلى الحكومة الفيدرالية في الكابتول هيل. اقترعوا في نهار واحد على مئات، بل آلاف، المناصب الثانوية أو الجوهرية التي ستحكم أقوى أمة على وجه الأرض، فلم يسجل في اليوم التالي حالة اعتراض واحدة. لم يتركوا لنا سوى بعض العتب أننا لم نكتب عن حلب. عن هذا العقل المريض الذي يسافر مع الزمن إلى كل مدن الخراب من قندهار إلى مقديشو ومن الموصل إلى بنغازي ومن طهران إلى صنعاء وتعز. عن هذا العقل الصغير الذي أبقى بلداً مثل لبنان لعامين بلا رئيس لعدم اكتمال النصاب الديمقراطي تحت قبة البرلمان، وسيبقيه أشهراً أخرى بلا حكومة لاختلاف الفرقاء على من يشغل وزارة الأشغال. عن هذا العقل المضروب حين يشكل الحوثي والمخلوع ما أسموه حكومة وحدة وطنية، وكأن القصة اليمنية برمتها مجرد نكتة عابرة. عن ليبيا التي تقول عنها الأرقام إنها اليوم مجرد 50 قناة فضائية وكل قناة لفصيل يدعي شرعية الرئاسة. عن هذه الشعوب التي وصلت إلى حضيض العقل إلى الدرجة التي أصبح فيها أتباع بالملايين للحوثي وبوكو حرام وداعش وحزب الله وأنصاره. وكل ما أخشاه أن أكتب عن "حلب" لأكتشف غداً أنها كانت نسخة من سابقاتها في قندهار والموصل وصنعاء وتعز وضاحية بيروت وسواحل بنغازي وسرت. أخشى أن أكتب عن حلب ثم يظهر لي أنها نسخة من أخواتها عندما يخرج منها غداً وزير ديوان جند أبوبكر البغدادي مثلما خرج لنا من قبل أبوقتادة من مزار شريف وزيراً لجند الظواهري وبن لادن.