فيكي حبيب 

لن تتعافى الشاشة الصغيرة سريعاً من نكسة عام 2016. شظايا كثيرة خرقت جسد «صندوق العجائب»، فأنهكته وتركته يلفظ أنفاسه الأخيرة، مبشّرة بأن عصر التلفزيون الذي حوّل العالم الى قرية صغيرة، آخذ بالأفول.

أصوات الكراهية والانغلاق تعلو الشاشات والخوف من «الآخر» ينسف أفكار العولمة.

رياح ما اصطلح على تسميته بـ «الربيع العربي»، تعصف شرقاً وغرباً: شرقاً باتجاه أرض مصبوغة بالدم الحيّ الأحمر، وغرباً باتجاه أرض محاصرة بالخوف والكراهية... وفي الحالتين، منتصر وحيد اسمه التطرف. أبيض أو أسمر؟ لا فرق. تطرف من الشرق وتطرف من الغرب. تطرف باسم الدين وتطرف باسم الخوف من الآخر. تطرف صدّع أبواب وسائل الإعلام حتى في أكثر البلدان ديموقراطية وأكثرها إيماناً بالحريات الإعلامية.

ترى، كيف نقرأ استطلاع الرأي الذي أعلنت عنه مؤسسة «غالوب» نهاية العام في الولايات المتحدة، وأظهر تراجع ثقة الأميركيين بوسائل الإعلام إلى أدنى مستوى لها في تاريخ استطلاعات الرأي هذه، خصوصاً إذا علمنا أنها (أي استطلاعات الرأي) بدأت منذ عام 1972 تطرح السؤال ذاته سنوياً حول مدى ثقة المواطن بنقل وسائل الإعلام الأميركية الأخبار بدقة وإنصاف؟ ثم هل يعني فوز دونالد ترامب بالرئاسة الأميركية أن وسائل الإعلام الكبرى لم يعد لها التأثير الواضح في تشكيل الرأي العام وتحديد خيارات المواطن، بخاصة أن الأبرز منها جنّد كل طاقاته لمصلحة المرشحة الخاسرة هيلاري كلينتون؟ وماذا عن وسائل الإعلام في بلادنا إن أمكن الوصول الى هذه النتيجة في بلاد العمّ السام؟ ومن الرابح والخاسر في هذه المعركة؟

أسئلة كثيرة لا يمكن حصرها في هذه السطور تتوارد سريعاً عند الحديث عن الثقة المفقودة بين المواطن وشاشاته، سواء كانت للسياسة يد فيها، أو للعامل التجاري يد أخرى.

أما في بلادنا، فلا حاجة الى استطلاعات رأي للوصول الى هذه النتيجة. فالثقة مفقودة منذ زمن طويل، مذ كانت الشاشات الحكومية وحيدة في الحلبة، تنهل من مدرسة «استقبل وودّع» ولا تبتعد من إنجازات «السيد الرئيس». ولم تدم الفرحة طويلاً مع اقتحام القنوات الخاصة المشهد التلفزيوني، واستبشار المواطن العربي خيراً بولادة قنوات تحاكي تطلعاته لا تطلعات الحاكم، ثم تهليله مع بزوع عصر الفضائيات. فالصدمة أتت سريعاً. والثورة التلفزيونية استحالت فوضى إعلامية تنذر بما لا يحمد عقباه، مع أكثر من 1300 فضائية تسبح في فضائنا، بأجندات وسموم تبثها عبر الأثير من دون أي ضابط مهني أو وازع أخلاقي (أفاد تقرير اتحاد إذاعات الدول العربية لعام 2015 بأن عدد القنوات الفضائية التي تتولى بثّها أو إعادة بثّها هيئات عربية عامة أو خاصة بلغ 1394).

فوضى ليس أدلّ عليها من مشهدين تناقلهما رواد مواقع التواصل الاجتماعي بكثافة نهاية العام.

مشهد أول بطله فيصل القاسم وهو يتلفّظ بكلمات نابية في وجه ضيفه مباشرة على الهواء عبر برنامجه الأسبوعي «الاتجاه المباشر» على شاشة «الجزيرة».

مشهد ثانٍ ضحيته نجوم الـ «توك شو» في الشاشة المصرية، لميس الحديدي وريهام سعيد وأحمد موسى، وهم يتلقون صفعات ولكمات في الشارع من الحشد الغاضب أمام الكنيسة البطرسية في القاهرة.

مشهدان لا يعود الحديث بعدهما مجدياً عن اهتزاز العلاقة بين المشاهد العربي والشاشات التلفزيونية، ولا يمكن معهما إلا الترحم على عصر ليلى رستم وسواها من وجوه العصر الذهبي للتلفزيون.