سميرة المسالمة

هل تحوّل المعارضة السورية بكياناتها السائدة، على الساحتين السياسية والعسكرية، هزيمة حلب إلى نكسة أخرى، على غرار ما فعل نظام الأسد بتصويره هزيمة حزيران (يونيو) ١٩٦٧ على أنها مجرد نكسة؟ وهل تتنصّل المعارضة من مسؤوليتها عن هذه الهزيمة بتخفيف وقعها، أو بتجاهل تداعياتها الخطيرة، باعتبارها مجرد أمر عابر، من دون الإقدام على أية مراجعة نقدية لإدارتها للصراع مع النظام؟ ثم هل تستعيد المعارضة دورها ذاته، بتكييف أحوالها مع ما جرى، على أساس أن المعركة كانت تستهدف وجودها كمعارضة، معتقدة أن النظام وحلفاءه فشلوا في إلغاء هذا الوجود، وأنها قادرة على الاستمرار، بالأدوات والخطابات وأشكال العمل ذاتها، تماماً كما فعل النظام بعد تلك الهزيمة الحزيرانية القاسية التي ما زالت تداعياتها الخطيرة ماثلة حتى اليوم؟

‎من البديهي أن أسئلة كثيرة، صعبة ومؤلمة، تطرح نفسها وتنتظر من المعارضة الإجابة عنها، بصدق ونزاهة، بدلاً من إمعانها في المكابرة وانكار الوقائع والتهرب من المسؤولية، التي تأخذها نحو التوغل أكثر وأكثر في أخطائها، معركة إثر معركة، وهنا لا أقصد فقط المعارك في الميادين العسكرية بل حتى في الميادين السياسية.

‎لعل من المفيد بداية التوضيح ما المقصود بالهزيمة، حتى لا يتسرع بعضهم عن نية طيبة أو غير ذلك ليلقي التهم جزافاً، باتهامنا بالترويج للإحباط، والفتّ من عضد الأمة، وحتى لا يتبرع البعض بالمزايدة، إذ لا يمكن إنكار أن ما حدث هو هزيمة، لكن هذا لا يعني أن روح الثورة هزمت، أو أن إرادة الحرية كسرت، أو أن مشروعية الثورة تلاشت، إذ إن الهزيمة حصلت للخطابات الفئوية والطائفية والأيديولوجية التي سادت، ولأشكال العمل المزاجية والدكاكينية والفوضوية، وللارتهان لأجندات وإملاءات هذه الدولة او تلك. 

وهذا الاعتراف ليس من شأنه أن يقلل من جريمة النظام بحق الشعب السوري، والمقتلة الكبرى التي جرت في حلب، بسلاح مشترك للأنظمة الاستبدادية المجرمة في سورية وروسيا وإيران، لكنه في الآن نفسه يضعنا والعالم أمام مسؤولية ما حدث، على صعد مختلفة. وبديهي أن هذا يشمل النظام العالمي الذي استكان لإرادة روسيا الوحشية تجاه القضية السورية، ويشمل تخلي الولايات المتحدة عن دورها كدولة عظمى، لا سيما مع تراجعها عن مساندة الثورة السورية التي منحتها مراراً وتكراراً صفة الشرعية، وكما يشمل ذلك تمظهر مساحة واسعة من تقاطع المصالح والأولويات بين روسيا وتركيا وبين روسيا وإيران.

مقابل هذا التشخيص للأسباب الدولية التي أدت إلى الانهيار، ثمة اعتراف آخر يخصنا كمعارضة لا بد من مواجهة أنفسنا به، وهو أن هذه الهزيمة ليست يتيمة حيث هناك مسؤولون عنها، في الكيانات السياسية والعسكرية والمدنية، وأن متطلبات الوطنية والنزاهة والوفاء لتضحيات شعبنا تقتضي من المعنيين الاعتراف بالمسؤولية عما حصل، والخضوع للمساءلة والنقد والمحاسبة. وهو أقل ما يمكن القيام به ككيانات ثورية تدرك مآلات هذه الخسارة، وتعمل بمنطق المصلحة العامة ومن ضمنها سلامة مسار الثورة، والحفاظ على ما أنطلقت من أجله أي تحقيق الحرية والكرامة والديموقراطية والمواطنة للسوريين جميعاً.

ولا بد من الإشارة هنا إلى أن الاعتراف بالهزيمة ليس مطلوباً في ذاته فقط، وإنما هو مطلوب من أجل تصحيح المسار، من أجل المستقبل، من أجل الوفاء لتضحيات وعذابات السوريين.

‎وعليه يفترض الاعتراف، أعجبنا ذلك أم لم يعجبنا، بأن الثورة السورية بالشكل الذي سارت عليه خلال السنوات الماضية، بما لها وما عليها، وبالقوى التي تصدرتها، سياسياً وعسكرياً، بنمط تفكيرها وطريقة عملها وبحكم هشاشة وتشرذم كياناتها، آلت الى حدود الفشل، وأوصلتنا كسوريين الى طريق شبه مسدود، وفاقمت من عزلة الثورة عن شعبها، ولم تمكنّا من تعزيز صدقية وأحقية ثورتنا في العالم، وربما كان خطابنا الذي انتهجناه خلال السنوات الماضية والذي تماهى مع خطابات طائفية حيناً، وقومية حيناً آخر، وايديولوجية اقصائية في أحيان أخرى، مبتعداً عن خطاب الثورة الأساسي الذي نادى بالحرية والمساواة والكرامة والمواطنة، ولعب دوراً كبيراً في ذلك. بل إن هذه الخطابات المتخلفة، التي تتغطى بالدين، او تستغله بطريقة غير سليمة، ساهمت في تمرير مشاريع لا تنتمي الى «الوطنية» السورية، وهو ما تجلت معالمه في مناطق أطلق عليها «محررة» لتكون عيّنة لا يمكن القبول بها دولياً وشعبياً (مظاهرات إدلب ودرعا ضد «النصرة» مثالاً) كي تحل بديلاً من نظام قدم نفسه الى العالم بثوب «علماني» مزيف نفّذ من تحت ثناياه كل أنواع الاضطهاد والإقصاء والإرهاب. وكان يمكن لخطاب سياسي يثبت على الثوابت، أن يوجه بوصلة العمل الوطني سياسياً أو عسكرياً، لكن هذا الخطاب تلاشى بفعل فاعل، لا يمكن أن يبقى كل الوقت مجهولاً، وغير معرف به، إلا إذا كانت النخبة السياسية ما زالت تراهن على مزيد من الخسائر التي يدفع ثمنها شعب عظيم بإصراره على الحرية من نظام توغل بالقتل ومن بديل لم يقدم له إلا النموذج الفاشل ادارة وتشريعاً وممارسة.

على ذلك لا يمكن التعامل مع معركة حلب على أنها مجرد نكسة، والأخطر اعتبار أن معارضتنا، بالشكل الذي سارت عليه، انتصرت ببقائها. على المعارضة أن تجري مكاشفة في شكل علني وجماهيري، تتحمل بها وزر ما حدث، وتعلن قطيعة مع تلك المسيرة السابقة، برموزها وكياناتها وطرق عملها، والبحث عن طريق جديد، يتأسس على الاستفادة من التجربة الماضية، والبناء على نقطة ارتكاز أساسية هي حق الشعب السوري باستمرار ثورته حتى تحقيق هدفه الذي خرج إليه ألا وهو إقامة الدولة المدنية الديموقراطية أي دولة المواطنين الأحرار والمتساوين.

هزيمتنا في معركة حلب لا تعني انتصار قاتل السوريين بل على العكس تماماً هي فقط تمثل زيادة في جرائمه وفي عدد ضحاياه، وتجعل من خسارته على ما هو قادم ربما، من تفاهمات دولية قد تودي به إلى نهاية، لم يكن يتوقعها، وهو يوزع شكره هنا وهناك على من سانده في قتلنا وتدميرنا بشراً وحجارة.

هزمنا ولم ينتصر، وستبقى ثورة الحرية والكرامة والمواطنة والديموقراطية، تلك هي المعادلة السورية التي ستبقى مع الشعب السوري وفي كل الحسابات السياسية الدولية.


* كاتبة وإعلامية سورية