هل تقوم الجمهورية الثالثة وتكون أحسن حالاً بإحداث التغيير والإصلاح الإداري والسياسي

اميل خوري

لم يعد الناس يهتمون لا بخطابات القسم ولا بالبيانات الوزارية ولا بالوعود النيابية لأن معظمها لم ينفّذ منها سوى القليل القليل، فيتكرر ما جاء فيها من عهد الى عهد ومن حكومة الى حكومة ومن مجلس نيابي الى مجلس نيابي.

لذلك لم يعد الناس يهتمون بالأقوال إنما ينتظرون الأفعال ليشكروا أو يذمّوا. لقد مرَّ 73 عاماً على الحياة السياسية في لبنان منذ الاستقلال وتعاقب على الحكم فيه 13 رئيساً للجمهورية، اثنان منهم لم يتمكنا من الحكم هما الشيخ بشير الجميّل الذي اغتيل قبل سبعة أيام من موعد تسلمه الحكم، ورينه معوض الذي اغتيل بعد 17 يوماً من موعد تسلمه الحكم. وتألفت منذ الاستقلال الى اليوم 77 حكومة بين رؤسائها من لم يصل بحكومته الى مجلس النواب، أو جاء لمرحلة انتقالية محدودة، وكانت مدة تأليف الحكومات تراوح ما بين السرعة، أي أسبوع أو أسابيع، وبين شهر أو أشهر عدة، وبينها حكومات لم يتعدَّ عدد أعضائها الثلاثة أو الأربعة، وحكومات نادراً ما بلغ عدد أعضائها الـ30، وكان منها حكومات أقطاب وحكومة موظفين وحكومة شباب وحكومة عسكريين وحكومة كل لبنان وحكومة إنقاذ. 

أما حكومات "الوحدة الوطنية" فقد ضربت الرقم القياسي خصوصاً بعد العام 2005. وعاش لبنان في ظل نظام يميل حيناً الى الحكم الرئاسي وحيناً الى الحكم المجلسي والى الحكم الأمني، ومرَّ عليه فترة قصيرة "حكم الترويكا" الذي اختزل السلطات التنفيذية والتشريعية وبقي الفصل بين السلطات أمراً بديهياً، والتنسيق والتعاون في ما بينها أدى أحياناً الى تداخلها. 

ولم تعد السلطة التشريعية حصراً بمجلس النواب عندما تُمنح الحكومات صلاحيات إصدار مراسيم اشتراعية، ولا كانت سلطة محاسبة ولا مساءلة مع حكومات "وحدة وطنية" تختصر المجلس. ولم تكن السلطات القضائية مستقلة كما نص الدستور وكما وعدت بذلك الحكومات لأنها لم تستطع أن تخرج كلياً من وصاية السلطة التنفيذية وبقيت أحياناً رهن إشارتها سواء في مباشرة التحقيقات أو إصدار الأحكام. ولم يقم رئيس الجمهورية أحياناً بدوره في تأليف الحكومات ولا احترام بعضهم أحكام الدستور في طلب تجديد ولايته ولا أبرّوا بقسمهم في ما يتعلق بحماية حدود لبنان. وبقي مجلس الوزراء من غير نظام داخلي ينظم عقد جلساته ومداولاته، حتى أن الدستور الذي أعطاه مقراً خاصاً لعقد جلساته ليكون مؤسسة قائمة في ذاتها توفر للحكم مركزية كاملة وتصبح البيانات الوزارية معبّرة عن سياسة الحكم في كل قطاع انمائي وتربوي واجتماعي وأمني وبيئي، وفي كل شأن يتعلق بالحرية والعدل والمساواة وحقوق الانسان، فإن هذا المقر لم يعد متخصصاً لعقد هذه الجلسات.

أما الانتخابات النيابية فلم تجرّ وفقاً لقانون واحد يكون ثابتاً وعادلاً ومتوازناً، بل يوضع عند كل استحقاق انتخابي قانون يعيد انتاج السلطة ذاتها وكما يُرغب فيها احياناً إن لم يكن غالباً، فجاءت المجالس النيابية مفصّلة على قياسات مختلفة ووفقاً للأوضاع والظروف ولمشيئة الحكام. وكان عدد النواب مرة 44 ثم 55 و77 و99 و108 و128، والانتخابات تجرى حيناً على أساس المحافظة دائرة انتخابية وحيناً على أساس القضاء وحيناً آخر على أساس ترتيبات خاصة بخلفية ترضيات تجعل من المحافظة دائرة واحدة في منطقة، وفي محافظة أخرى تكون الدائرة مجموعة أقضية، وفي منطقة تدمج محافظتان في دائرة واحدة، فيفوز نواب في دوائر بأصوات لا تتعدى العشرة آلاف صوت، وآخرون يفوزون بأصوات تفوق المئة ألف، فتتعطل إرادة الشعب التي هي مصدر السلطة بموجب الدستور لتصبح السلطة هي مصدر السلطة. ومن البدع التي فرضتها ظروف سياسية أو أمنية أن صار التمديد لمجلس النواب غير مرة. وعرف لبنان حكم الأمراء من معنيين الى شهابيين، ومن حكم المتصرفية الى حكم الانتداب الفرنسي بعد إعلان دولة لبنان الكبير، الى حكم الاستقلال ثم الى حكم الوصاية السورية بعد حكم ميليشيات أفرزتها حروب داخلية مدمرة، الى حكم الدولة اليوم والى جانبها دولة موازية هي دولة "حزب الله"، ما جعل الحساسيات الشخصية والتجاذبات السياسية تطغى على مسيرة بناء الدولة القوية العادلة، وتغلّب المصالح الشخصية والنزعة العشائرية والقبلية والمناطقية والطائفية على المصلحة العامة، فصارت الدولة مزارع مستباحة أكثر منها مؤسسات دستورية وطنية.

الى ذلك، يمكن القول إن جمهورية ما بعد اتفاق الطائف لم تقم مع انتخاب أول رئيس، ولم تكن أفضل حالاً مما قبلها في إرساء دولة الحق والقانون والمؤسسات، وفي تطبيق هذا الاتفاق تطبيقاً دقيقاً كاملاً. وكانت البيانات الوزارية متقاربة ومتشابهة ومكررة في التركيز على العموميات والثوابت بحيث أن ما تكون حكومة ذاهبة عجزت عن تحقيقه تتولاه حكومة مقبلة، ولا سيما ما يتعلق بالاصلاح الاداري والاصلاح السياسي والمالي واستقلالية القضاء وتأمين الماء والكهرباء والطرق وتعزيز الزراعة والصناعة ومكافحة الفساد، وهي مواضيع يتكرر ذكرها ولكن من دون أن يتحقق شيء منها. فالرؤساء يتغيّرون والحكومات تتغيّر ونواب يتغيّرون، ولا شيء يتغيّر في الوضع الشاذ الذي عاشه لبنان في الجمهورية الأولى وفي الجمهورية الثانية، فهل تقوم جمهورية ثالثة تكون أفضل حالاً فتغيّر ما يحتاج الى تغيير وتصلح ما ينبغي إصلاحه؟