إميل أمين

 درجنا على القول إن الموت أضحى في الشرق عادة، لكن ها هو الظلام يخيّم على الشرق والغرب معًا؛ من قلب القاهرة إلى الكرك الأردنية، ومن أنقرة التركية إلى داخل برلين الألمانية، وقبلها باريس الفرنسية، ولا أحد يمكنه توقّع موقع أو موضع الضربة المقبلة.
أهي سلسلة من الحوادث أم تيار من الكوارث؟
لم يعد الإرهاب تنظيمات مركزية أو خلايا عنقودية، بمعنى أن الإرهابيين (أو غالبيتهم على الأقل) لم يعودوا ينتظرون الأوامر التراتبية للقيام بعملياتهم، بل باتت المسألة إشكالية آيديولوجية وعقائدية؛ وفكرًا يؤمن به أصحابه في أي مكان في العالم، ومن ثم يشرع هؤلاء في إلحاق الأذى بالآخرين، مما يجعل مقاومة مثل هذا الإرهاب ضربًا من ضروب المستحيل.
الذين تابعوا حادث اغتيال السفير الروسي في أنقرة تساءلوا طويلاً: هل نحن في مشهد مشابه تاريخيًا لإطلاق النار على الأرشيدوق فرانس فريدناند ولي عهد النمسا، أوائل القرن العشرين، الذي قاد إلى الحرب العالمية الأولى؟
التاريخ لا يعيد نفسه، هذا صحيح، لكن الواقع هو أن أحداثه تتشابه ولا شك، ووجه التشابه هذه المرة في الجوهر لا في المظهر، بمعنى أنه ربما نكون بالفعل في قلب الحرب العالمية، ولكن بشكل مجزَّأ ولا ينقص العالم سوى عود ثقاب لإشعال الكون دفعة واحدة، وهناك من المحفزات السلبية ما يكفي ويزيد.
كانت أخطاء القوى الدولية الكبرى ولا شك عاملاً رئيسيًا في إشعال العالم بالإرهاب، فالغزو السوفياتي لأفغانستان ولَّد موجة عاتية من الراديكالية، واحتلال الولايات المتحدة للعراق مثَّل بدوره عاملاً موازيًا، دعم الحركات الراديكالية ذاتها في طريق الدماء والفناء عينه، كما أن عودة روسيا إلى الشرق الأوسط مرة جديدة وبوجه مسلح زاد من التهاب المشاعر الملتهبة في الأصل.
جزء بالغ من عنف وإرهاب الأيام الماضية يتصل جذريًا بمفهوم «المراكز والتخوم»، لا سيما بالنسبة لما يجري في الموصل وحلب، فـ«داعش» المحاصر والمحسور هناك، في قلب مراكز وجوده التي خُيِّل إليه أنها ستكون عاصمة خلافته المزعومة، يحاول تخفيف الضغط الأدبي والأخلاقي، وتعويض خسائره اللوجيستية، عبر استخدام أذرعه المباشرة من الخلايا النائمة أو القائمة حول العالم، عطفًا على تفعيل أدوار أصحاب الولاءات الذهنية والقلبية، وإن لم يكونوا بالضرورة على كشوف أعضائه الرسميين، ومن ثم بعث برسالة للعالم تؤكد فاعليته وحضوره الدموي في الحال والمصير الأسود الذي ينتظر أعداءه في الاستقبال.
الحقيقة الثابتة الأخرى التي لا بد من الاعتراف بها هي أن المواجهة المسلحة بمفردها هي مواجهة قاصرة وغير مجدية؛ ففي زمن وسائط التواصل الاجتماعي غير المسبوقة، والعالم السيبراني غير المحدود، يضحى حصار الأفكار ضربًا من ضروب العبث، فإعلان الحرب على الغضب لا يجدي، لذا فإن المواجهة الحقيقية يجب أن تكون مواجهة فكرية أولاً وأمنية تاليًا، وإلا فالقادم أسوأ بكثير، فالذين يستخدمون وسائل النقل لدهس الناس، لن يعدموا وسيلة في القريب جدًا لحيازة سلاح نووي أو تصنيعه بتكلفة لا تزيد على مليوني دولار، والعهدة هنا على راوي مجلة «فورين بوليسي» الأميركية، في تحقيق حمل عنوان «الإرهاب الذي في الجوار».
غداة حادثة برلين الأليمة، تحدث الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترامب منددًا بـ«الهجمات المتواصلة للإرهابيين الإسلامويين على المسيحيين»، مطالبًا بـ«محوهم من على وجه الأرض».
ترامب لا دالة له على التفكير المنهجي أو التحليل العلمي السليم، فالتوصيفُ بدايةً كارثيٌ، والعلاج عنده أكثر فداحة.
نعم سقط كثير من المسيحيين ضحايا، لكن من سقطوا من المسلمين، لا سيما في العالم العربي، أكثر بمئات المرات، بل إن هدف الإرهابيين تحويل «الدولة القومية العربية»، إلى غابة من المتطرفين.
الأمر الآخر هو أن فكرة السحق والمحق يثبت يومًا تلو الآخر عدم جدواها أو فعاليتها، فقد حرك من قبله بوش الابن، الرئيس الثالث والأربعون، أساطيل بلاده، وجرَّد جيوشه الجرارة، الظاهرة والخفية، لمطاردة إرهابيي «القاعدة»، وها هو الحصاد بعد عقد ونصف العقد من الزمان: تنظيمات إرهابية عدلت وبدلت من نفسها، وجماعات عنف مسلح طورت أدواتها وتحالفاتها، لتُنحَّى من كونها مجرد تجمعات إرهابية ارتجالية لتكون جزءًا من منظومة سياسية وإقليمية أكثير تعقيدًا واحترافًا، إلى الحد الذي دعا بعض المنظرين الثقات للقول إن الفترة المقبلة ستؤرخ لعالم ما قبل وما بعد انتشار وباء الإرهاب، حول العالم، بل قد يكون الإخفاق في وضع خطط أممية لمواجهة الإرهاب، علامة حقيقية على انهيار النظام العالمي بصورته التي عهدناها، سواء بعد الحرب العالمية الثانية، أو بعد انهيار المعسكر الشيوعي الشرقي.
السؤال الذي يحتاج لتناد عالمي دون تلكُّؤٍ أو تأخر «كيف السبيل لقطع طريق الجنون على الإرهاب القاتل الذي يسعى لتحويل العالم إلى (جمهورية كونية من الخوف)»؟
وقت كتابة هذه السطور، أوروبا وأميركا وكثير من أجزاء العالم تستعد لاحتفالات أعياد الميلاد ونهاية سنة ميلادية وبداية أخرى، غير أن الناظر للمشهد يرى أن «سُرّاق الفرح» قد نجحوا إلى حد بعيد في أهدافهم، وتحولت شوارع العالم إلى ثكنات مسلحة من أقصى الأرض إلى أقصاها... مشهد يغاير بالمطلق نشيد «المجد لله في العلا، وعلى الأرض السلام، وفي الناس المسرة».
من ينقذ العالم من حماقة الحروب الأهلية، والهجمات الإرهابية والتعصب الديني، وأطماع الإمبرياليات الشرقية والغربية معًا؟!