حسين شبكشي

 هل ستشتري ساعة «يونانية»؟ أم تركب سيارة «روسية»؟ أم تأكل في مطعم «ألماني»؟ على الأرجح ستكون إجابتك عن كل هذه الأسئلة بالنفي التام. لماذا؟
لأنه ليس غريبًا أن تكون للدول صورة ذهنية تترسخ ويتم الترويج لذلك الأمر. والترويج للدول تحول مع الوقت إلى تصدير للثقافات وفرض الهيمنة على الآخرين. وفي العقود الأخيرة كانت الغالبية المطلقة للثقافة الأنغلوساكسونية وحضارتها، المتمثلة في إنجلترا وأميركا وكندا وأستراليا ودول الكومنولث التابعة لها. وقبل ذلك كانت هناك أدوار مختلفة وحقب متنوعة للفرنسيين والإسبان والبرتغاليين والهولنديين. ولكنّ هناك صعودًا هائلاً لا يمكن إنكاره ولا إغفاله لطموحات الروس والصينيين والهنود، هم جميعًا دخلوا على الخط وبقوة لوضع بصمتهم ليقولوا إن الحقبة القادمة حقبتهم... إن صراع الحضارات وتبادل الأدوار سنن الله في الكون.
مع كل حقبة حضارية تأتي «فاتورة تكاليف» بطرق مختلفة وأساليب شتى تنهض أمم وتسحق أمم، والبقاء دومًا للأقدر تكيفًا على الاستمرارية. ولضمان البقاء والإبقاء على المكانة المميزة للأمم تثبت لنا الأيام أن ذلك يتحقق بالتركيز على الخصائص المميزة والقيم المستدامة، مثل العدالة والمعرفة والحقوق، هذه كلها مفاهيم أخلاقية تتفهمها وتتفق عليها الإنسانية جميعًا بلا استثناء وبلا جدال.
واليوم ندخل مرحلة غريبة وجديدة من عمر الإنسانية وصراع الحضارات والثقافات بين الأمم. أمم لها طموحات شرسة جدًا، ولن تتوانى عن استخدام أي وسيلة لتحقيق ذلك الأمر، وكل الترسانة التي بحوزتها سيتم توظيفها لأجل هذا الإنجاز، ولعل أخطر هذه الأسلحة ليس النووي ولا الكيماوي ولكنه السلاح الإعلامي.
تطوير ظاهرة الإعلام والإعلام المضاد بات مسألة خطيرة جدًا للسيطرة على العقل الجمعي حول العالم وتكوين مجاميع لأجل «التحكم من بُعد فيهم»، بتكلفة أقل ولكن بفعالية أكبر. فاليوم أصبح واضحًا وجود صناعة «الأخبار الكاذبة» وباتت هذه الصناعة في العلن وغزت الإعلام التقليدي نفسه، ورأينا آثار ذلك الأمر في الانتخابات الرئاسية الأميركية الأخيرة، ونراها بشكل أكبر في الصراع الإعلامي الحاصل بين أميركا وروسيا والصين، فكل واحدة منها أطلقت سلسلة من المبادرات الإعلامية المختلفة لمواجهة التحديات القادمة. وأصبح لمحطة «روسيا اليوم» موقع منافس وتراجعت حظوة «الحرة» التي أطلقت من قبل وزارة الخارجية الأميركية، ولا تزال المحطة الصينية تخطو بخطى ناعمة.
الإعلام كان أداة تأثير ذات يوم، فالكل لا يزال يذكر تأثير «بي بي سي» البريطانية، و«صوت أميركا»، و«مونتي كارلو» الفرنسية، وجاء وقت «سي إن إن»، ولكن اليوم ربط صراع الحضارات بأدوات إعلامية لا تميز (عمدًا) بين الحقيقة والدجل، هي مسألة أقل ما يقال عنها إنها أسلحة دمار شامل حديثة.