إبراهيم البليهي

ليست عادات الفرد الذهنية وولاءاته، ورؤاه الوجودية، سوى امتداد للعادات المتوارثة السائدة في مجتمعه، فكل مجتمع محكومٌ بعاداته الذهنية، والوجدانية، والسلوكية، وهو يتوارث هذه العادات، ويتبرمج بها، بحتمية حادة صارمة..

العقل البشري نظامٌ يعمل بالنمذجة، والأنماط، والتعود، وليس بتعقُّل آنيٍّ محايد لكل موقف، أما أساس ذلك كله، فيعود إلى أن الطبيعة الأساسية للإنسان، هي قابليته للتبرمُج، والتكيف، والتعوُّد، فالعقل منظومةٌ من العادات تتجسد بتصورات، ومعايير، وأُطُر، وقيم، واهتمامات تتكوَّن في الأفراد غالبا بشكل تلقائي، كما أن المجتمعات تتوارث تلقائيا بشكل حتمي عادات أسلافها، فأية معلومات، أو أحداث طارئة، لا تكون هي الحاكمة للمواقف، والاتجاهات، وإنما هي محكومة بالمنظومة التصورية الثابتة، التي تكَوَّنت على شكل عادات ذهنية، ووجدانية، يفيض منها التفكير، والسلوك، والأحكام، والمواقف، والآراء بشكل تلقائي، كما يفيض الضوء من المصباح، أو الماء من النبع، أو الألم من الجرح، أو اللهب من النار، فأي موقف إيجابي أو سلبي يتخذه الإنسان ليس ابن لحظته، أو نتاجًا محضًا لمعلومات آنيَّة تلقاها، وإنما يستجيب الإنسان للمواقف طبقا للمكوِّنات الأساسية التي تكوَّنت بها منظومته الذهنية، والوجدانية، وبسبب هذا التحديد المسبق، فإن معلومةً واحدةً يستجيب لها الناس في مختلف المجتمعات استجابات مختلفة، وربما متضادة حسب منظوماتهم الذهنية والوجدانية ...

إن كل إنسان هو نتاجُ عاداته الذهنية، والوجدانية، والسلوكية، التي تكَوَّنت غالبا بشكل تلقائي، فهي التي تتحكم به، وتحدد مساره، إنه لا يتصرف بدوافع عقلانية آنية محايدة، أو بمعلومات موضوعية محضة، مهما بلغ علمه، ومهما حاول أن يكون متجردا، وإنما تتلون أحكامه، ومواقفه، ورؤاه، بتصوراته المسبقة، وهنا لابد من التفريق بين العادات، والتقاليد، فالعادات هي تَبَرْمُجٌ فرديٌّ، يتحرك بها الإنسان تلقائيا، وفي الغالب من دون وعي قصدي، وهي تختلف عن التقاليد التي يعيها الناس كمعايير اجتماعية، وقد يضطرون إلى الالتزام بها، لكنهم يفعلونها بوعي كارهين أو مبتهجين. فالفارق بين العادات، والتقاليد، أن الأولى تلقائية، وهي تدفع الفرد إلى التصرف بشكل تلقائي من دون وعي قصدي، أما التقاليد فهي معايير يتم الالتزام بها، أو إهمالها بوعي، لكن إذا التزم فردٌ بأحد التقاليد، وكرر فعله بانتظام، فإنه بالتكرار يكون قد خلَق عادة، فتصير من عاداته التلقائية ...

وليست عادات الفرد الذهنية وولاءاته، ورؤاه الوجودية، سوى امتداد للعادات المتوارثة السائدة في مجتمعه، فكل مجتمع محكومٌ بعاداته الذهنية، والوجدانية، والسلوكية، وهو يتوارث هذه العادات، ويتبرمج بها، بحتمية حادة صارمة، فكل مجتمع مكوَّنٌ من أفراد، وكل الأفراد يتبرمجون تلقائيا بعد ولادتهم، قبل أن يعوا أنفسهم، وقبل أن يعرفوا ما يحيط بهم. فالحواس تنقل من الواقع ما تتبرمج به القابليات تلقائيا، فيتكوَّن عقل الفرد بما تنقله الحواس تلقائيا. إنه عقلٌ جمعيٌّ، وكل فرد هو تجسيدٌ نموذجيٌّ لهذا العقل العام، مع اختلافات فردية تقتضيها فوارق القابليات، والاختلافات النسبية للتبرمج، لكن رغم هذه التلقائية في التبرمُج، وفي تكوين البنية الذهنية والوجدانية لكل الأفراد، فإن كل فرد يتوهم أنه هو الذي كوَّن تصوراته، وأنه المتحكم في محتويات قابلياته، وأنه يملك عقلا جوهريا مستقلا، وأن وعيه الفردي القصدي هو الذي يقف خلف كل ما هو عليه من تصورات، وولاءات، ورُؤى، وهو ينخدع بفاعليات وعيه في الحياة اليومية، وبنجاحاته العملية، والمهنية، ويجهل أن التعامل مع المشاغل اليومية، يختلف نوعيا عن البنية الذهنية الأساسية المتعلقة برؤية العالم، وبالقضايا الجوهرية، حيث يتصرف الفرد فيضانًا مما تبرمج به تلقائيا، فليس الوعي سوى محرك البحث، ومَخْرَج، وممر، لمحتوى الخافية التي تتحكم بالإنسان تلقائيا ...

حتى الأفراد الأشد ذكاء، يبقون مندمجين وذائبين في التيار العام، إلا إذا تعرض أحدهم لمواقف موقظة، فإنه قد يفيق، أما الأصل، فإن الجميع يظلون ذائبين في القطيع، وينصرف الأذكياء كغيرهم من الناس، إلى الجوانب العملية، فتستغرقهم المشاغل اليومية، ولا يخطر على بال أحدهم، أن يشك في ما تبرمج به، فقد تجده ذكيا باهرا في جوانب علمية دقيقة، أو عملية باهرة، في التجارة، أو الإدارة، أو السياسة، وقد يكون داهية في الحياة اليومية، وفي التعامل مع أعقد القضايا، لكنه يظل مأخوذا بما تبرمج به في طفولته، فمهما تفاوتت قابليات الأفراد عند ولادتهم، فإنهم بسبب طول فترة القصور والضعف، التي يمر بها كل فرد أثناء فترات الطفولة، والمراهقة، والشباب، فإنهم يتبرمجون بعادات المجتمع بما تعنيه من تصورات، ورؤى، ومواقف، واهتمامات، وقيم، وولاءات، فالطفل الذي يولد بقابليات عبقرية، وذكاء خارق، سوف يتبرمج كغيره بما هو سائد في البيئة، وبذلك يتشكل عقله، وتتكون اهتماماته، ويتحدد اتجاهه، فالعقل الفردي عند الولادة ليس أكثر من قابليات فارغة مفتوحة للتبرمج التلقائي ...

لو أخذنا ألفا من الأطفال العرب عند ولادتهم، ووضعناهم عند عائلات يابانية، لاكتسبوا العادات اليابانية، ولتشربوا اللغة اليابانية، فيصبحون بذلك يابانيين، لغة، وعادات، وولاء، وانتماء، وبكل ما يتميز به اليابانيون، أو ما يفتقرون إليه، فالعادات هي عقل المجتمع، وليست عقول الأفراد سوى امتداد لهذا العقل العام، ونتاج تلقائي من نتاجه ...

وبالمقابل لو أخذنا ألفا من الأطفال اليابانيين عند ولادتهم، ودمجناهم في عائلات عربية لاكتسبوا العادات العربية، ولتشربوا اللغة العربية، فيصبحون بذلك عربا في اللغة والعادات، والولاء، والانتماء، فلو أعدناهم بعد الكبر إلى اليابان، لأصبحوا عاجزين عن التكيف مع المجتمع الياباني، بما فيه من ولاء للوطن يبلغ حد الهوس، وما فيه من انضباط يصل حد القسوة، وما فيه من حب للعمل يبلغ درجة الاستغراق، وما عندهم من مهارة تبلغ أقصى مستويات الدقة والإتقان .

سوف يشعر هؤلاء العائدون بالغربة التامة في المجتمع الياباني، رغم أنهم يابانيون لحما ودما وولادة، لكن العادات التي تشربوها في المجتمع العربي، لا بد أن تجعلهم مختلفين كليا عن اليابانيين في العادات الذهنية، والوجدانية، واللغة، والولاءات والاهتمامات، والاتجاهات، والقيم، وفي طرق التفكير، وفي السلوك، وفي أسلوب الحياة . ..

وهذا الذوبان العام ليس خاصا بمجتمع من دون آخر، وإنما ذوبان الأفراد في التيار العام يحصل في كل المجتمعات، فمهما قيل عن شيوع النزعة الفردية في المجتمعات الحديثة، فإنهم من الناحية الثقافية، والفكرية، يبقون مندمجين في القطيع، وليس كما يُصَوِّره المفكر عبدالله العلايلي، حيث أكد على الفاعلية الحاسمة للعادات عند العرب وهيمنتها على الأفراد، أما الحقيقة فهي أن هيمنة العادات مستحكمة عند كل البشر، وليس فقط عند العرب، لكن عادات الأمم مختلفة، وتختلف أوضاع الشعوب باختلاف عاداتها، وليس باختلاف أفرادها أما العلايلي فيقول :( القبيلة العربية استطاعت أن تذيب الفردية تماما. لم يكن له استقلال شخصي فيما تتجه إليه الجماعة. ومن فرط خضوعهم لنوع هذا النظام. سيطرت عليهم الحماسة للقبيل وتوهجت نارها في نفوسه وهكذا تكوَّنت العصبية العنيفة عند القبيلة للفر وعند الفرد للقبيلة وهذه العصبية كان من شعارها :

لا يسألون أخاهم حين يندبهم في النائبات على ما قال برهانا

هذه العصبية العنيفة حَنَتْ نفوسَ العرب، على اعتبارات شديدة الخطورة في توزيع الشعور، وبدوات الإحساس، وأقامت ميولهم على قاعدة بالغة الضيق بالغة الحرج . أقامت المجتمع العربي على العصبية النكراء، ولقد غلت بهم حتى امتدت بآثارها إلى القانون، والعرف، وحتى استحال تاريخ العرب القبلي، إلى تاريخ للدماء، وإذا أردنا أن نحصر بواعث التاريخ لديهم فلا نجد شيئا وراء هذه الداعية العنيفة، وقد نكون أكثر تحقيقا إذا قررنا أنها كانت المحرك الحيوي العام. فقد ظهرت بألوانها في الاجتماع والأخلاق والأدبيات والمثل. ولم تكن عند العرب نزعة تفوق هذه النزعة في عنفها، وشدتها . فاستحكام القبلية يظهرنا على مقدار الجهود الواجب بذلها لتطهير النفس العربية وإعدادها، والقضاء على المزاج العقلي القبلي، بإعطائهم مزاجا عقليا جديدا خليقا بتصريف حركاتهم في كيانهم الدولي، وتهيئتهم لما يُسَمُّونه بخلق الأمة ،على شكل صالح، وهذا يستدعي من العناية العملية أكبرها، وإلا فمجرد التعاليم لا تكفي لتغيير روح الأمة). إن استحكام العادات ليس خاصا بأمة من دون أخرى. فالإنسان هو ابن عاداته. ويجري تطويع المعلومات والأفكار بشكل تلقائي. مع التصورات والأنماط الذهنية والوجدانية السائدة. فلكل أمة روحٌ جامعة ترفعها إلى القمة، أو تهبط بها إلى الحضيض، وهذه الروح هي التي تتحَكَّم باتجاه التعليم، والإعلام، وبكل وسائل التنشئة والتأثير. فالمعلومات التي تتلقاها الأجيال في أي مجتمع، لا يمكن أن تؤدي إلى تغييره، وإنما كل مجتمع يحشد التعليم، والإعلام، وكل النشاطات العلمية، والثقافية والتربوية، لتوطيد الواقع، وليس إلى تغييره ...

لذلك لابد أن يدرك الراغبون في التغيير في أي مجتمع، أن تعميم التعليم في أوربا جاء ثمرةً للتغيير، وليس سابقا له، فهو إحدى نتائج الثورات الفكرية المتلاحقة، وليس خالقا لها، والأخطر من ذلك أن تركيز الكثير من المجتمعات في التعليم ليس لخلق التفكير العلمي، وتكوين المهارات البناءة، وإنما يتم شحن الدارسين عاطفيا بالولاء للماضي، والنفور من حضارة العصر، وعدم الاهتمام بمقوماتها الضرورية، فتأتي نتائج التعليم مضادة لما يجب أن يكون، وهذه من المفارقات الكبرى التي مازالت مهيمنة ولم توضع حسب علمي في أي مجتمع موضع المراجعة الفاحصة، التي لابد أن تُسفر عن إفاقة فارقة ...

إن أوربا لم يوقظها التعليم، وإنما أيقظتها الثورات الفكرية المضادة له، والناقدة بعمق للعادات، والتصورات، التي كانت سائدة، فالتقدم يتطلب تغيير التصورات، وتصحيح الاتجاهات، وتبديل المسارات، وليس إضافة معلومات مع بقاء التصورات الخاطئة. لكن المجتمعات التي قلدت الغرب في تعميم التعليم، لم تؤسس تعليمها ليضاد السائد، أو لينقده، أو يصحح مساره، وإنما شحنته بما يكرسه، ويلهب العواطف، ويعمق وعي الغفلة، ويطفئ إمكانات بزوغ وعي اليقظة، وبذلك صار التعليم مضادا للتنمية التي تقتضيها حضارة العصر، وبسبب ذلك مضت العقود تلو العقود، والأوضاع في الكثير من المجتمعات تزداد سوءا، فرغم أن الإنفاق على التعليم في الكثير من الأقطار المتخلفة قد استنزف الكثير من الموار،د والطاقات، فقد جاءت النتائج بائسة بل كارثية، ومع ذلك مازالت هذه المجتمعات تعلق الآمال الكبرى على مالا أمل فيه، إلا بإحداث تغيير جذري في التصورات، وعادات الفكر، والفعل، وفي اتجاه ومحتوى التعليم ذاته، كما حصل في أوربا، واليابان، وفي كل المجتمعات المزدهرة، أما من دون ذلك فسوف يستمر الضياع في الأموال، والأعمار، والأجيال، والآمال ...

كانت الكنائس في أوربا تهيمن على التعليم، وكانت تلك الهيمنة تضمن الاستمرار، وتحول دون التغيير، ثم توالت الثورات الفكرية التي فككت تسلط الكنيسة، وبذلك حصلت الولادة الجديدة للعقل الأوربي الذي امتلك قابلية التغير المستمر، فمعيار التحضر، هو القدرة على التغيُّر. إن بداية التطور الأوربي كانت سريان تلك الروح العارمة، التي وصفها ( هوتن ) بانفعال وبهجة، حين قال عن روح النهضة وكان معاصرًا لها : ( العلم يزدهر، الأذهان تتصادم وجها لوجه، إنها لمتعة أن نحيا ( هكذا لا ينهض أي مجتمع حتى تسري فيه روحٌ جديدة فتية عامة، وعارمة، وبذلك يستطيع توحيد جهده واتجاهه، فيكتشف الإمكانات التي لديه ويستثمرها حتى النهاية، ويكتشف العوائق التي فيه فيتخلى عنها، ويستبدلها بما يتلاءم مع المرحلة التي يعيشها ...

أرنست بلوخ وصف في الكتاب الذي ألفه عن ( فلسفة عصر النهضة ) تلك الروح الجديدة التي سرت في المجتمع الأوربي، وأتاحت له تغيير عاداته، ومكنته من اكتساب عادات جديدة تتلاءم مع الروح الجديدة : (الصعود الذي لم تكن البشرية قد عرفت مثله من قبل، الصعود المفعم بالنضارة، والطراوة ميلادٌ جديدٌ، لكن هذا الميلاد الثاني لم يكن انبعاثُ شيء ماض، بل كان ولادة شيء لم يحدث أن تَصَوَّره، أو صمَّمه الإنسان في زمن من أزمنة الماضي، كان ظهور وجوه لم تُر ذات يوم على وجه الأرض ظهرت وأنجزت عملها فكان ربيع انطلاق جديد. ( أحدهم ) وصَفَ حركة النهضة بأنها أهم انقلاب متدرج عرفه العالم حتى ذلك الحين، فالإنسان خُلق ليعمل . النفع مآله. الفاعلية هي الشعار الجديد الإنسان الجديد يعمل . فلم يعد يخجل من العمل . ( العمل لم يعد ) مذلا ومشينا. (البشرية تشهد) ميلاد الإنسان الصانع. الذي يحوِّل العالم بنشاطه . الناس يهتمون. ويكتشفون في الفرد قوى مجهولة. النهضة عصرُ اكتشاف وسائل إنتاج جديدة. لكن بين القوى المنتجة، الإنسان الذي يخترع، ويجرؤ ( إنه ) هو نفسه ظاهرة جديدة. في المسرح أيضا يأتي الفرد إلى الظهور، مسرحية الخلق تطرد تدريجيا المسرحية ذات الأشخاص، والأنماط الجامدة، في الذروة تنتصب دراما شكسبير حيث الفرد الفريد الذي ليس له بديل ممكن، وحيث تنوع البشر يعارضان التأدب الرتيب، أما المظهر الثاني لهذا العصر، فهو الشعور بالاتساع، واللامحدود الذي يستولي على البشر . فجأة تظهر إرادة التوسع ويقبل كحقيقة بدهية ما كان في أمس قريب يعتبر حماقة. الطبيعة تنفتح للنظر. ليس المنظر سوى مرافق، سوى إطار لعمل الأشخاص . الإنسان فتح العالم ( وهيمن على الأشياء بعد فهم ) الطبيعة يخطو خطوات سريعة .. الحياة الحاضرة تستهوي البشر) إن كل المعطيات محكومة بالتصورات الجماعية والفردية، وليس للتعليم في أي مجتمع أي تأثير إيجابي، إلا بمقدار تأثيره بعادات الفكر، والفعل، وكما قال شكسبير في عبارة جامعة عجيبة ملهمة، حيث جاء في مسرحية هاملت : ( فالعادة ماردٌ جبَّار يلتهم العقل التهاما)، مدهش هذا الشكسبير إذ كيف استطاع أن يختزل مثل هذه الحقيقة الكبرى في أقل من نصف سطر، ففي ست كلمات فقط أعطانا مسبارًا نبصر به الفاعلية الحاسمة للعادات المستحكمة . ويتكرر نفس المعنى عند العبقري الفرنسي باسكال، حيث يرى أن الناس يولدون غير متشكلين، ثم تتحدد طبيعتهم بالتعود، فالعادات هي الطبيعة الحقيقية للإنسان، وبسبب ذلك اختلفت الأمم بمقدار اختلاف العادات الفكرية والوجدانية، وكذلك الأفراد يختلفون بمقدار اختلاف ما تبرمجوا به من تصورات، وعادات فكرية ووجدانية ...

وقبل أن يتطور علم الأعصاب، ويكتشف كيفية تبرمُج القابليات تلقائيا، ثم قصدًا قال شكسبير : (العادة تكاد يكون بوسعها تبديل وسْم الطبيعة) ويقول أيضا : (ما أشد ما تبدو لي عادات الدنيا هذه مضنية عتيقة فاهية لا نفع فيها. عادات الدنيا لا يملؤها إلا كل مخشوشن نتنت رائحته. سأمحو كل تدوين سخيف أحمق(لذلك لا يوصف هاملت بأنه مجرد وعاء لبعض المعلومات وإنما يوصف : ( هاملت رجل النهضة الذي بتعدد النواحي في شخصيته، مازال مثلا من مُثُل الحضارة الأوربية. بعيدُ الفكر، لاذعُ النكتة، واع مأساة الحياة على نطاقها الأوسع، بما فيها من تناقض بين العبث، وضرورة الفعل، في البؤرة من ظروف آنية عاتية تعجُّ بالطمع، والطموح، والفساد، والتآمر، والتلصص، وكان من المحتم أن لا يكون رد الفعل هذا مجرد فعل عكسي، بل فعلٌ يتصل بالفكر، والنفس، والإحساس، بمصير الحياة ) ولأن هاملت قد أدرك طبيعة العقل البشري، وعرف هيمنة العادات الذهنية عليها فإنه :( لا يرضى بأمر ما لمجرد اتفاق الناس عليه، وحتى الحقائق القديمة يجب أن يكتشفها لنفسه من جديد . فالحقائق يجب أن يستخلصها من واقعه بالفكر، على أن يعترف بأن الفكر لا يستطيع التهرب من الواقع. لديه ثقة لا تتزعزع، وعلم بامتلاء نفسه بالغوامض التي لن يستطيع استخراجها القاصرون ) إن العادات تحيل الناس إلى إمعات أشبه ما يكونون بالقطيع، فهم يقادون بالتقليد، والعادة، أكثر مما ينقادون للعقل والبصيرة، ذلك أن الإنسان في الغالب، ليس أكثر من وعاء يمتلئ بما تلتقطه حواسه، وتتبرمج به قابلياته، فيتشكل عقله، وتتكون اهتماماته، وتتبلور عواطفه، وتتحدد اتجاهاته، فالفرد في الحالة السلبية ليس أكثر من رقم في حشد، أو قطرة في نهر، أو ترس في آلة، مهما تَوَهَّم أنه مستقل التفكير ومهما ظن أنه ناضج العقل.