حسين شبكشي 

 الحديث الذي لا ينتهي عن «المهاجرين» و«اللاجئين» الفارين من منطقة الشرق الأوسط بشتى الطرق إلى كافة أنحاء العالم عمومًا، وإلى القارة الأوروبية تحديدًا، لا يصف سوى نصف القصة ونصف الحقيقة، فهذه ليست «الهجرة» الوحيدة المهمة، على الرغم من الأبعاد المأساوية والإنسانية للمشاهد المؤلمة، فهناك مشهد آخر لا يقل فداحة، وهي استمرار هجرة العقول والمال من المنطقة بمعدلات لا تقل خطورة ولا فداحة.
المنطقة العربية فقدت في السنوات الأخيرة مبالغ عظيمة خرجت وعلى الأرجح لن تعود إليها مجددًا، والأهم أنها فقدت كمًا عظيمًا من الخبرة التراكمية والفريدة والمميزة.
المنطقة العربية كانت طول فترة القرن الفائت نقطة جذب عظيمة للكفاءات المميزة والمهاجرة إليها من القارة الأوروبية والآسيوية والأفريقية، كانت منطقة مشهودًا لها بالأمان والتعليم المميز والوسطية والتسامح والتعايش، ولكن بالتدريج بدأت ملامح التغيير تحصل، وبدأت معالم هذا التغيير تتسبب في توتر المجتمعات وتدهور مستويات التعليم، وتفشي التوتر وارتفاع معدلات البطالة، وانهيار معدلات الإنتاج، وكل ذلك كان من نتائجه الطبيعية أن تهرب العقول المبتكرة والمميزة إلى الخارج.
ولأن رأس المال بطبيعته جبان وحذر وغير مجازف، وجد عدد كبير من رجال الأعمال العرب أن المنطقة باتت غير آمنة، وملاذ أموالهم بات في مكان آخر، وكان بالتالي الخروج المالي الكبير.
الربيع العربي كان من أسوأ نتائجه هذا الدمار الممنهج والخروج غير الآمن لمئات الآلاف من مواطني المنطقة لمصير مجهول، مليء بالمخاطر والتهديدات. هجرة العقول والأموال لا تحظى بالتغطية الكافية على الرغم من جديتها وأهميتها، لأن العقول المهاجرة والمال المهاجر يجد كل ترحيب وبشكل فوري ومحترم، فتسخر لذلك كل السياسات والقوانين.
المنطقة العربية أمام واقع مؤلم وتحد غير بسيط أبدًا، فهي تواجه مشاكل اقتصادية كبرى ومتنوعة، وتدرك تمامًا أن عليها تكوين منظومة «مرحبة» بالاستثمار الدولي وفي مختلف القطاعات، ولكن كيف لدول المنطقة أن «تبيع» ذلك للغير، وهي غير قادرة على المحافظة على أموال مواطنيها ولا على عقولهم وخبراتهم الثرية والمميزة.
هذه معضلة ليست بسيطة، وبالتالي الحكومات العربية مطالبة بالعمل بشكل أساسي على «الحفاظ» على عقول وأموال مواطنيها في المقام الأول، لأن معدلات الهجرة العقلية والمالية في زيادة بمؤشرات مزعجة ومقلقة، بل هناك من يعتبر ذلك تهديدًا صريحًا للأمن القومي لهذه المنطقة، وخطرًا مباشرًا على «مناعتها» الاقتصادية المستقبلية. الهجرة المالية والعقلية ليست جديدة، فلقد حصلت من قبل بعد سقوط الدولة العثمانية، ثم تلت ذلك موجة أخرى بعد نكبة فلسطين، ثم بعد حرب 1967، وبعدها كان احتلال العراق والربيع العربي، وانطلقت أعداد مهولة من المهاجرين المميزين وهاجرت رؤوس أموال هائلة.
العربي فقد عنصر الطمأنينة والإحساس بالأمان، وهما أهم نقطتين في القرار الاقتصادي المهم. في غفلة ما يتم تداوله من أخبار وآراء، لا يلقى موضوع هجرة العقول والمال القدر الكافي من الاهتمام، وأخشى أنه لن يلقى ما يستحقه إلا بعد فوات الأوان.