عبد المنعم سعيد

واحدة من القواعد الأساسية في العلاقات الدولية، هي أنه ما لم تتحكم في حركة الأحداث وسرعتها؛ فإن هذه الأحداث ذاتها سوف تبدأ في التحكم فيك. مثل ذلك يصدق تماما على الدول العربية، فرادى ومجتمعة، فما لم تكن سابقة لمنحنى الأحداث الجارية في المنطقة وفي العالم، فإن المفاجأة عادة ما يكون لها ثمن مرتفع. وعندما يكون الحال، كما هو جارٍ في منطقتنا منذ بدأ العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين حينما تحركت جماهير غاضبة، أو حركتها قوى منظورة أو غير منظورة، لا فرق، فإن ما حدث كان كما لو كان تحركات للكرة الأرضية أخذت شكل زلازل وتوابعها. وحتى الآن مع مطلع عام 2017 فإن الغليان في الشرق الأوسط لا يزال جاريا تحت الأرض وفوقها. والآن فإن المشهد يشهد بحدثين لا يمكن تجاهلهما: الأول صدور «إعلان موسكو» من العاصمة الروسية في 20 ديسمبر (كانون الأول) الحالي وبتوقيع من الاتحاد الروسي، وإيران، وتركيا على إدارة «المسألة السورية»، بحيث تشمل مفاوضات بين نظام بشار الأسد مع المعارضة برعاية الدول الثلاث في مدينة «آستانا» في كازاخستان، فضلا عن استمرار الدول الثلاث في مواجهة قوى الإرهاب متمثلة في «داعش» و«جبهة النصرة» و«فتح الشام». والثاني قيام الرئيس الأميركي المنتخب بتسمية ديفيد فريدمان سفيرا للولايات المتحدة لدى إسرائيل، وهو صاحب وجهة النظر التي تؤيد المستوطنات الإسرائيلية، وترفض حل الدولتين، وتطالب بنقل السفارة الأميركية من تل أبيب إلى القدس.
واضح أن الحدثين يعكسان إلى حد كبير التطورات الجارية على الأرض، والتي نجمت من ناحية عن سقوط حلب في يد القوات السورية والإيرانية و«حزب الله» مع مساعدة روسية فعالة. ومن ناحية أخرى فإن دخول القوات العراقية مع القوات الكردية مع قوات الحشد الشعبي الشيعية إلى الموصل، وتقلص حدود دولة «داعش» خلقا في الحقيقة تواصلا ما بين النفوذ الإيراني في العراق وسوريا. وفي الحالتين فإن الولايات المتحدة لم تكن جاهزة، ربما بفعل عملية التغير الرئاسي، لكي تكون فاعلة، لا سياسيا ولا عسكريا ولا دبلوماسيا، لكي تشارك في التحضير لمرحلة ما بعد العمليات العسكرية، والعمل من أجل استقرار السلطة في سوريا. ومع الخروج الأميركي من الصورة، فإن الأمم المتحدة لم يبد لها أثر، وكذلك كانت الدول العربية لأسباب متنوعة؛ ولكنه أيا كانت الأسباب فإن النتيجة كانت واحدة، وهي أن منطقة المشرق العربي كلها يجري رسمها، هذه المرة ليس باتفاق بريطاني فرنسي كما حدث في الحرب العالمية الأولى تحت اسم سايكس بيكو، وإنما باتفاق روسي وإيراني وتركي.
هنا فإن الولايات المتحدة يبدو وكأنها تريد استكمال الصورة فيما يهمها من مصالح في الشرق الأوسط تدور حول إسرائيل. فنقل السفارة الأميركية من تل أبيب إلى القدس لا يشكل لطمة لقرارات سابقة للأمم المتحدة، أو حتى لطمة لموقف مستقر لكافة الإدارات الأميركية، أو ما انتهت إليه عملية السلام العربية - الإسرائيلية التي جرت خلال التسعينات من القرن الماضي من قبول حل الدولتين؛ وإنما يضع الأساس لنوع ما من حل دولة واحدة، إما أن يطرد الفلسطينيون منها أو يقبلوا العيش في دولة يكونون فيها مواطنين من الدرجة الثانية. مثل هذا الحال يعني انفجارا آخر، ومددا لا يقدر لجماعات إرهابية متعصبة، ووضعا حرجا لدول عربية وجامعتها. هل يبدو أمر إعادة رسم خريطة النفوذ في المنطقة كما لو كان التحالف الروسي الإيراني التركي على استعداد لكي يعطي دورا للولايات المتحدة في العراق وإسرائيل الكبرى؛ بينما يكون لروسيا موقعها المتميز في سوريا؛ وتستكمل إيران نفوذها فيما سمي في السابق الهلال الشيعي الذي يربط بين العراق وسوريا ولبنان؛ أما تركيا فتخرج من التوافق بتأمين حدودها مع سوريا والعراق ربما بشرائح من الأرض أو بمناطق منزوعة السلاح، والأهم ممنوعة التحول إلى دول كردية؟.
الولايات المتحدة هكذا تكون قد حصدت نتائج سياسات باراك أوباما الذي لم يرَ في سوريا مصلحة استراتيجية أميركية تستدعي التدخل العسكري؛ ولولا أن «داعش» كان له امتداداته الإرهابية في الولايات المتحدة ذاتها ودول غربية أخرى، فربما لم يكن غامر بالتدخل الجوي بالطريقة التي فعلها. ولكن أوباما في كل الأحوال ظل حانقا على التدخل الأميركي في العراق، وعندما خرج منها ظل حانقا على التمدد الإيراني، ولكنه وجد الخطر الإيراني فقط في حصول إيران على السلاح النووي!. وعلى أي الأحوال فإن الأمر لم يعد في يد أوباما، ولكن ربما كانت المعضلة أنها وقعت في يد ترامب الذي يرى هو الآخر أنه لا توجد مصلحة لأميركا في سوريا اللهم إلا ضرورة هزيمة الإرهابيين، وهؤلاء سوف تتولى روسيا أمرهم، أما إذا كان على أميركا أن تلعب دورا فسيكون ذلك من خلال الدول العربية، سواء كان ذلك بجنودها أو من خلال دفع تكلفة التدخل الذي سوف يجري التفاهم عليه مع روسيا؟!. كل ذلك يبدو معقدا وغير مفهوم، ولكنها طريقة ترامب المبعثرة التي لا يمكن الاستشفاف منها سوى عن دور محدود للولايات المتحدة، سوف يكون أكثره لصالح إسرائيل.
ماذا نحن العرب فاعلون إزاء ذلك كله؟ الحقيقة أنه لا يوجد أفعال في السياسة إلا إذا كانت عاكسة من ناحية لحقائق واقعة على الأرض، وإذا كان متوافرا لها القراءة الصحيحة لما يجري بالفعل من ناحية أخرى. ومن المدهش أن التطورات الأخيرة في المنطقة (تدمير حلب، إعلان موسكو، تأكيد ترامب على نقل السفارة الأميركية من تل أبيب إلى القدس) لم يكن لها لا فعل من الدول العربية، ولا رد فعل، ولا حتى تعليق بالرفض أو بالقبول أو بالسعي لتقليل الخسائر أو بالاستنكار. هذا ومن المؤكد أن هناك أمورا أخرى تشغل الدول العربية، بعضها داخلي وبعضها الآخر خارجي، ولكن الانشغال بأمور أخرى لا يلغي ما جرى من أحداث، ولا نتائجها، ولا تأثيراتها على التوازنات الإقليمية الاستراتيجية. وعندما نستيقظ على أشعة شمس الصباح فإن الواقع سوف يكون صادما، لأن الفائز والخاسر فيما يجري حاليا سوف يكون واضحا بشدة.
إذا كانت هناك بداية يمكن البدء منها فربما كانت الدعوة إلى قمة عربية يسبقها تشاور بين الدول العربية حول الذي نريد الخروج به من القمة. الجامعة العربية، بيت العرب، ربما تكون الإطار المناسب الذي يحقق هذه المرة ما لم يحققه في القمة العربية الأفريقية التي انقسمت فيها الدول العربية. ولكن الإطار وحده لا يكفي، فالمطلوب إرساء منهج للتسويات والأمن الإقليميين يأخذ مصالح كل دول المنطقة في الاعتبار، وبقدر ما يحافظ على الدول، ويهزم الإرهاب، فإنه يحافظ على الجماعات والأقليات، ويعيد التوازن الإقليمي مرة أخرى إلى نقطة مقبولة. ربما يكون ذلك مبالغا فيه، ولكن المعضلة أن البديل للأحلام سوف يكون صعبا تحمله بينما روسيا وإيران وتركيا تعيد تشكيل المنطقة هذه المرة، بينما نحن منشغلون بأمور أخرى.