بكر عويضة

 لأن الجَزمَ القاطع أي هامش شك بيقين علم الغيب هو أمر فوق قدرة البشر، فالأرجح أن كل من لا يزال يُحكّم العقل، سوف يعجب إذ يسمع أحدهم، أو يطالع لبعضهم، ضمن سياق التحليل والتوقع في الشأن السياسي، من الكلام ما ينبئ أن قائله أو كاتبه يعرف، على وجه اليقين، سيناريو الآتي لأنه أقدر من غيره على معرفة خبايا ما يجري (!). من نِعَم الأقدار، وحسن الطالع، أنني بدأت مشوار صحافتي بالتعلّم من أساتذة كبار تحاشي الكلمات الجازمة، وتذكّر احتمال أن يحصل نقيض معاكس تمامًا لما يخطر لي عند استقراء أي حدث. ذلك درس حرصت دائمًا، قدر ما استطعت، على تطبيقه تحريريًا، وفي إطار تعميم الفائدة وجدتني أنصح به زملاء وزميلات أفاضل، فيأخذ به بعض، بينما يرفض آخرون الاقتناع، وهو أمر طبيعي ولا يغير من واقع الاحترام المتبادل، ولو أخذ كل ناصح، بأي مجال وعلى أي مستوى، في التعامل مع المنصوح بمبدأ حرية الرفض والقبول، لكان واقع عالم البشر، كلهم أجمعين، أفضل مما هو عليه بكثير.

حسنًا، هل أقع في خطيئة فعل عكس ما أقول فأسارع إلى وضع قائمة بما أتوقع أن تأتي به سنة 2017؟ آمل ألا يحصل ذلك، فألتزم مبدأ تحاشي الجَزم، يعينني على التمسك به إدراكي المُسبق أن قارئي وقارئات ما أكتب ذوو مستوى معتبر من المتابعة والفهم، وهو ما يجعلني أقرب إلى التأكد مني للشك أنهم متفقون معي على حقيقة أن السنين يرث بعضها بعضًا، مثلما أن الأجيال ذرية بعضها من بعض، ولولا ذلك لما كانت عمارة الأرض مسؤولية أخيار أهلها، وهم الأغلب الأعم، فيما خرابها هو همُّ أشرار البريّة، وهؤلاء أقلية حتى لو بدوا أحيانًا أقوى تدميرًا، وأعلى نفيرًا.
ضمن ما سبق، بديهي القول إن سنة 2017 سوف ترث حروب 2016 الإقليمية، التي تدور رحاها في غير مكان منذ مطالع عام 2011، إن شئنا دقة التوثيق. يمر بي، بهذا السياق، حديث ثلاثي حول مائدة غداء لندني قبل أيام من انقضاء عام 2010، وكانت شرارة حريق «ربيع» العالم العربي لم تزل في تونس، أولى محطاتها، وإذ جرى تبادل الرأي بشأن احتمالات ما تؤول إليه الأحداث، أخذ أحدنا - وهو صحافي عريق التجربة، ومثقف عميق المعرفة - باحتمال يرجح كفة «أن الآتي أعظم»، وهو ما حصل. لم يكن الصديق يقرأ كف الغيب، إنما يحلل، بلا جزمٍ، ما يرى من مؤشرات.
هل للتخوّف مما قد تأتي به سنة 2017 ما يبرره؟ بالطبع. يكفي تدقيق النظر بما يزقزق به دونالد ترامب، سيد البيت الأبيض (اعتبارًا من نهار عشرين الشهر المقبل)، بشأن توسيع ترسانة أميركا النووية، وهي تغريدة أثارت الرعب حتى بين الأميركيين قبل غيرهم، مع أن قيصر الكرملين ليس بمقصّر هو أيضًا عندما يتعلق الأمر بسباق الرؤوس النووية. ثم، ماذا ترى يدور في رؤوس سادة التنين الصيني تجاه استفزازات مستر ترامب، وأحدثها، لا آخرها، تعيين صقر متشدد تجاه بكين، هو بيتر نافارو، على رأس مجلس التجارة الخارجية في الإدارة المقبلة. وإن أضفت إلى ما سبق إصغاء السمع إلى أقوال بنيامين نتنياهو، ردًا على قرار مجلس الأمن رقم 2334 الصادر نهار الجمعة الماضي بشأن ضرورة وقف بناء المستوطنات، وأسلوب رئيس حكومة تل أبيب في تقريع حكومات دول بحجم بريطانيا وفرنسا، إضافة إلى تلك التي وافقت على القرار، بما في ذلك استدعاء سفرائها يوم عيد الميلاد وتوبيخهم، يكفي النظر إلى ذلك كله، إضافة لما انطلق من رسائل على ألسنة زعماء المنتصرين في معركة حلب تبشّر بقرب توسيع دائرة انتصارهم إقليميًا، كي يكون للتحسّب مما ستحمل 2017 أكثر من سبب وجيه. ولئن عُدّ القول إن السنين ترث بعضها بعضًا موضع اتفاق، كذلك يمكن التوافق على أن الحروب تلد حروبًا. السؤال الآن هو ما إذا كان زمام إدارة حروب العالمين العربي والإسلامي المستعرة منذ مطلع 2011، سيفلت على نحو تصعب السيطرة عليه مجددًا. كم يتردد القول إن إشعال الحرب سهل، لكن إخماد أوزارها صعب؟ كثيرًا، إنما كم كثير أيضًا عاقل الكلام الذي يذهب هباءً، إذ أكثر الناس منشغلون عنه بما يهمهم أكثر من انشغالهم بما يعني تطوير واقعهم، والإعداد المستنير لمستقبل أجيالهم.