عبدالرحمن الطريري

ما أدخل وسائل التواصل إلا وأتساءل وأتعجب بشأن هذا الميدان الواسع وحجم المحتوى الذي يتضمنه، إضافة إلى تنوع المحتوى، إذ يجد فيه المتصفح كل ما يمكن أن يخطر بباله، وما لا يخطر، وما من شك أن ما يوجد في وسائل التواصل يمثل أصحابه، وكما يقول المثل "كل إناء بما فيه ينضح"، والمتصفح يبحث عما يستهويه، أو يلمس فيه الفائدة. المهتم بالأدب، والشعر يجد ضالته، والمهتم بالاقتصاد كذلك يجد ما يبحث عنه من مؤشرات اقتصادية، وأسعار سلع عالمية كالذهب والبترول، والسياسي يجد الأخبار أولا بأول، والتحليلات، وما يدور في العالم من صراعات بين الدول، وحروب طاحنة خاصة الحروب التي ساحتها منطقتنا.

المحتوى الإلكتروني بضخامته لا يمكن تصنيفه بالسيئ كله، ولا بالحسن كله، ففيه الجيد، والرديء، وفيه النافع والضار، وفيه الجد، والهزل، وفيه الحكمة، والجهالة، وفيه الغث، والسمين، وفيه المسلي، والثقيل على النفس، كما أن فيه العميق، والسطحي، وهذا كله بهذه المواصفات يمثل مادة يمكن من خلالها، وبتحليلها الكشف عن أمور شتى بشأن اتجاهات الناس، ورغباتهم، وقبولهم، أو عدم قبولهم لقرارات، أو إجراءات تم اتخاذها، أو ينوى اتخاذها، إما بشأن اقتصادي، وإما بشأن اجتماعي يخشى من تأثيرها في حياة الناس، ونمط حياتهم، خاصة ما له علاقة بإحداث تغييرات اجتماعية.

وسائل التواصل الاجتماعي تحولت إلى سوق عامرة بكل البضائع، سواء بضائع فكرية، أو مادية، فأصحاب الأفكار يعرضون بضاعتهم، باستخدام طرق الإقناع، والإغراء، وأصحاب البضائع المادية يفعلون كل ما يستطيعون من عرض للصور، وشرح يبين فائدة ومميزات البضاعة، ولعل من أكثر ما يتم التسويق له المآكل، والمشارب، سواء في المطاعم، أو ما يتم تجهيزه في البيوت، حتى وجد على الساحة أفراد من الجنسين لهم متابعون كثر يتسابق عليهم أصحاب البضائع لتسويق بضائعهم الغذائية، حتى ليشعر المرء أن المجتمع تحول بكامله إلى مستهلك غذائي لكل ما يعده الآخرون، وكأن البيوت تخلت عن مهمة إعداد طعام العائلة.

وإذا كانت بعض الدول تلجأ إلى استطلاعات الرأي من خلال المراكز، والجهات المتخصصة لمعرفة آراء الناس إزاء موضوع ذي أهمية وطنية، أو يمس حياتهم، فإن مواقع التواصل الاجتماعي وفرت قنوات طوعية يتم التعبير من خلالها عن مواضيع شتى، مع ما يوجد من تحفظات على هذا المحتوى بشأن عدم موثوقية المصادر، والأسماء المستعارة، أو الأسباب الحقيقية وراء طرح موضوع بهذه الصيغة، أو تلك.

المحتوى يمكن أن يستشف منه طريقة تفكير فرد، أو مجموعة منهم، ومثل هذا الاستنتاج يكشف عقلية صاحب النص، أيا كانت طبيعة النص، ومجاله، سواء كانت تغريدة صغيرة، أو مقالا، أو تحليلا، أو قصة، أو غيرها، وعلى سبيل المثال قرأت تغريدة لواحد من الكتاب الذين صدعوا رؤوس أبناء المجتمع بقضايا أصدق ما يقال عنها إنها تتنافى مع مقومات المجتمع، هذه التغريدة يقول فيها «لو تم افتتاح دار أوبرا في الرياض، أو جدة، أو الدمام، أو فيها مجتمعة لأظهرنا أنفسنا مجتمعا متحضرا، بعيدا عن الإرهاب، والتخلف».

استوقفتني هذه التغريدة وتساءلت: هل الأوبرا ستغير من صورتنا عند الآخرين، أم أن هذه أمنية أقرب ما تكون للهراء؟! ألم يتأمل صاحب التغريدة في تغريدته قبل إطلاقها في واقع المجتمعات التي تمتلئ بدور الأوبرا والسينما، ويسأل هل سلمت من العنف والإرهاب؟! الواقع يقول يقتل الطلاب في المدارس، وفي الكنائس، والمساجد، بل في المسارح، ودور السينما، فلماذا لم يمنع انتشار دور الأوبرا أعمال الإرهاب؟!

لدي قناعة قوية أن وسائل التواصل الاجتماعي تمثل ميدانا واسعا وفر مساحة من الحرية في التعبير عن الرأي رفعت عن كاهل الناس القيود التي تفرضها دور النشر الرسمية، كما أن لدي قناعة أخرى أن محتوى وسائل التواصل، كـ "تويتر"، و"سناب شات"، و"إنستجرام"، و"فيسبوك" توفر معلومات لجهات عدة رسمية، وغير رسمية تتمكن من خلالها للوصول لبعض الحقائق.

النسق يمثل مدخلا مهما في معرفة الفكر الذي يسعى الكاتب لبثه، كما أن النسق يكشف عن نوع المشاعر إن كانت إيجابية، أو سلبية، وحدة المشاعر، وقوتها، وهذا من شأنه مساعدة الجهات ذات العلاقة على اتخاذ الإجراءات اللازمة إزاء الفكر وأهله. كما سبقت الإشارة الميادين الفسيحة زبائنها متنوعون، ومن جميع الشرائح الاجتماعية، وفيهم الناضج، والأقل نضجا، وفيهم عالي التعليم، والأقل تعليما، ويستقبلون ما ينشر عبر الوسائل، ولذا لا يمكن استبعاد الآثار الإيجابية والسلبية، لكن المحك في ذلك قدرة الفرد على التمييز بين الغث، والسمين، وهذا تحكمه المحددات التي سبق ذكرها كخصائص يتميز بها الأفراد، ما يساعدهم على فحص وغربلة البضائع ومن ثم تحديد الموقف حيالها.