شما بنت محمد بن خالد آل نهيان

تلملم الأيام بقاياها وتطوي صفحة عام 2016، تلك الصفحة التي خضبتها أحبار الأقلام الباحثة عن المعرفة، فانطلقت بقوة دفع عظيمة مستمدة من قرار صاحب السمو الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان رئيس الدولة، حفظه الله، حين أعلنه عاماً للقراءة، فكأنه فتح شرايين الثقافة فنبض قلب المعرفة في دولة الإمارات العربية المتحدة، وانفتحت نوافذ العقل على باحات المعارف، فملأت جنبات البيوت رائحة الحبر ترسم القراءة بأحلام العقول الطالة على المستقبل عبر أحلام الثقافة التي لا تنتهي. هنا كان لي عدة وقفات حول بعض الرؤى التي سجّلتها على هامش دفتر عام 2016:

ما بين أول عام 2016 ونهايته كثير من المتغيرات في العلاقة ما بين الكتاب والإنسان وتنمية تلك العلاقة ما بين الطفل والكتاب، فلم يعد هناك غرابة تُبعد الطفل عن الكتاب والاتجاه إلى العوالم الافتراضية كمصدر للمعرفة بديلاً عن القراءة، وتزيل المبادرات والفعاليات القرائية خلال عام القراءة تلك العلاقة الباردة بينهما، وتبدأ علاقة أكثر عمقاً، ذلك هو النجاح الحقيقي الذي نلمسه. ولابد أن ندرك أن الثمار الحقيقية لعام القراءة سنجنيها بعد سنوات، حين ينمو الجيل الحالي والأجيال التالية على معطياته وتتطور القواعد التي وضعها، وسنلمس القيمة الحقيقة في المستقبل للمتغيرات التي صنعها في التركيبة الفكرية والثقافية، ومن أهم ما حمله لنا هذا العام إطلاق قانون القراءة الذي يضع الأطر التشريعية والتنظيمية لترسيخ القراءة كسلوك عام للإنسان في المجتمع الإماراتي، فتنامت المبادرات التي تعمل على توفير الكتاب في الأماكن العامة، لنتحول من ثقافة المعرفة السطحية البسيطة إلى المعرفة العميقة المخلوطة برائحة الحبر وتنمية العلاقة بين الكتاب والطفل من خلال المبادرات التي أطلقت داخل المدارس بمختلف مناهجها وانتماءاتها، ليكون الكتاب جزءاً من يوم الطفل.

كل تلك المتغيرات التي طرحت على مائدة عام 2016 نلمس نتيجتها في تحول عدد كبير من الناس من العبث بهواتفهم في أوقات الفراغ إلى تقليب صفحات الكتب والبحث عن المعرفة، وكذلك تنمية الأطفال والناشئة على الكتاب كجزء من الحياة الروتينية من يوميات الإنسان، ولم يقف عند حدود الإمارات بل تخطى بالمبادرات إلى العالم العربي، حيث أطلق صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم نائب رئيس الدولة، رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، أكبر مسابقة قرائية في الوطن العربي (تحدي القراءة)، التي ساهمت في تنمية تلك العلاقة ما بين الطفل والكتاب، ليس فقط داخل دولة الإمارات العربية المتحدة، بل كل الدول العربية، لتمد دولة الإمارات أياديها البيضاء في كل ربوع الوطن العربي.

هل نكف عن نقد الذات؟

حين كنت أقرأ تلك الأرقام المحبطة عن واقع القراءة في العالم العربي، وأحاول أن أبحث عن المصدر كنت أتعجب من أين تأتي تلك الأرقام؟! هل من المنطق أن يكون معدل قراءة الإنسان العربي بكل تاريخه الثقافي والمعرفي القديم والحديث هو 6 دقائق فقط في العام؟ أي عقل يقبل تلك الأرقام؟! في الوقت الذي قال فيه بعض المفكرين استناداً إلى تلك الأرقام (إن أمة اقرأ لا تقرأ)، فكنت أصر بيقين عميق (أن أمة اقرأ ما زالت تقرأ)، فجاء عام 2016 يحمل معه انفتاحاً إشراقياً على حقيقة واقع القراءة في العالم العربي، بناء على دراسة عملية حقيقية قامت بها مؤسسات موثوق بها، متمثلة في مؤسسة محمد بن راشد آل مكتوم، بالتعاون مع برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، ليصدر هذا المؤشر مؤكداً يقيني، وأُعلن أن متوسط قراءة الإنسان العربي يصل إلى 35 ساعة سنوياً، وتأتي الإمارات في المرتبة الرابعة بين الدول العربية بعد مصر ولبنان والمغرب. وأرى أنه من المؤكد مع هذا الزخم القرائي وقانون القراءة والدعم الحكومي والمجتمعي للقراءة كسلوك إنساني سنصل إلى مرتبة أكثر تقدماً في السنوات المقبلة، فهل نكف الآن عن نقد الذات بقسوة والنظر للواقع الثقافي للمجتمع العربي من المنظور التشاؤمي الذي تعود عليه البعض، ونراه بنظرة مختلفة أكثر إيماناً بقيمتنا الحضارية والثقافية؟ فالقراءة جزء من تاريخنا وحاضرنا ومستقبلنا.

التربية الأخلاقية

أطلق صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، ولي عهد أبوظبي، نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة، مبادرة (التربية الأخلاقية) لدعم المناهج الدراسية، فتأتي هذه المبادرة لتكون استكمالاً لمبادرة عام القراءة التي تبني في الإنسان العقل والمعرفة، وتخلق في وجدانه قيمة متعاظمة للكتاب، فتأتي مبادرة التربية الأخلاقية لتكون بناء لأخلاقيات الإنسان، مستندة إلى قيمنا الأخلاقية الموروثة من نتاج ماضي صنعته أجيال تخلقت بأخلاق الصحراء الكريمة الطيبة، وتضمين ذلك في المناهج الدراسية هو التأكيد على تلك القيم الموروثة التي يجب أن يراها الطفل راسخة في البيوت، قد تنشأ في عقله عدة تساؤلات حول تلك السلوكيات الأخلاقية، التي يراها دون أن يدرك معانيها وأهدافها وقيمتها، ليأتي دور التعليم من خلال منهج التربية الأخلاقية، ليقدم للطفل التفسير لكل تلك التساؤلات، التي قد يطرحها، فتترسخ في وجدانه تلك القيم، ونبني أجيالاً قارئة ومستنيرة بأخلاقها واحترامها للإنسان والحياة وقوية، مؤمنة ثقافة قبول الآخر في إطار المنظومة المجتمعية المتكاملة التي تسعى على توطيدها وتقويتها دولة الإمارات العربية المتحدة.

عام الخير

منذ أيام ونحن نستقبل لمسات الفجر الباردة تشرق علينا شمس الخير، حين أعلن صاحب السمو الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان رئيس الدولة عام 2017 عاماً للخير، ليكتمل ضلع جديد في مثلث بناء الإنسان على أرض الإمارات (القراءة والأخلاق والخير). من هنا أدعو كل المجتمع أن يدرك أن الخير ليس فقط في إعطاء المحتاج والإنفاق على غير القادر، هذه إحدى جوانب الخير، لكن الخير قيمة واسعة تمتد حدودها إلى كل السلوكيات والقيم الإنسانية، فابتسامتك في وجه الآخر خير، واحترامك للآخر خير، وتنمية قدرات المجتمع ثقافياً وفكرياً هو أيضاً خير، فالخير هو العطاء في كل ما يمكنك فيه العطاء دون أن تنتظر مقابل ما تعطي، تلك الحقيقة يجب أن ندركها جيداً قبل أن نبدأ فعاليات عام الخير.. لننطلق في عام 2017 بتحليق العقول القارئة في فضاء المعرفة بجناحي الخير والأخلاق.

وماذا بعد؟ هل هنا نضع نقطة النهاية لعام القراءة ونفتح صفحة عام الخير؟ تلك هي الحالة التي لا يجب أن تكون، فلا تطفئوا شعلة عام القراءة لتوقدوا شعلة الخير، ولا تتوقفوا عن دعم مبادرات القراءة، يجب أن نحافظ على أدائنا المبهر في المبادرات القرائية إلى جوار مبادرات عام الخير، ذلك التخوف الذي أنقله للجميع، حتى لا نتوقف ونظل مندفعين بقوة المعرفة من أجل الخير، فنحن ننير شعلة بجوار شعلة، لا شعلة مكان شعلة، ليزداد مجتمعنا نوراً يكشف المزيد من المستقبل الأكثر نمواً وتطوراً وتحضراً، ويظل النور مشرقاً بشمس الحياة على المجتمع ليزداد الإنسان الإماراتي ارتقاء، ويبقى على طريق المعرفة وينهل من نهر الأخلاق مستمراً بالعطاء للخير.