راغدة درغام

ما لم تتحوّل رؤية جون كيري ذات المبادئ الست إلى قرار لمجلس الأمن الدولي قبل مغادرة الرئيس باراك أوباما البيت الأبيض، سيبقى الخطاب الذي ألقاه وزير الخارجية الأميركي هذا الأسبوع صرخة استغاثة متأخرة جداً لإنقاذ حل الدولتين الذي يحتضر على يد حكومة بنيامين نتانياهو. 

ما لم تتخذ الدول الأوروبية وعلى رأسها بريطانيا وفرنسا وإسبانيا وكذلك نيوزيلاندا خطوات استطرادية تصون ما أنجزه قرار مجلس الأمن الأخير 2334 الذي أعاد تأكيد القرار 465 للعام 1980 مستخدماً للمرة الأولى منذ 36 سنة لغة اعتبار المستوطنات الإسرائيلية بلا شرعية قانونية داعياً إلى تفكيكها، فإن هلع نتانياهو من هذا القرار واستخدامه سوطاً يجلد الدول التي تجرأت على تمريره في مجلس الأمن سيحجِّم هذا الإنجاز ويقوّض مفعوله القانوني. وهذا هو تماماً ما يعمل نتانياهو نحوه مراهناً على أن لا الولايات المتحدة ولا الدول الأوروبية ستجرؤ على أمرين أساسيين لإثبات الجدية في مواجهة سياسة الاستيطان الإسرائيلية هما: 
أولاً استخدام الأدوات الاقتصادية المتاحة لهذه الدول بدءاً من فرض العقوبات الثنائية والجماعية كاحتجاج فعلي على النشاطات الاستيطانية التي تدمّر عملياً حل الدولتين. وثانياً، التوجه إلى مجلس الأمن - في أعقاب اجتماع دولي تعمل فرنسا على استضافته منذ شهور عدة - بمشروع قرار يتضمن المبادئ الست التي حددها وزير الخارجية الأميركي. 

هذان الإجراءان سيدفعان نحو إدراك حكومة نتانياهو أن الأسرة الدولية عازمة على فرض حل الدولتين بدلاً من الخضوع لإجراءات إبادة هذا الحل. ولهذين الإجراءين روزنامة ضرورية قبل تاريخ 20 كانون الثاني (يناير) موعد تسلّم الرئيس المنتخب دونالد ترامب زمام الحكم وإلا فات الأوان. ومن هنا تُطرَح التساؤلات حول توقيت جون كيري تقديم رؤيته في الساعة الأخيرة للولاية الثانية للرئيس باراك أوباما بصورة لافتة تعكس نوعاً من تملص أوباما من الرؤية التي حملت اسم جون كيري، عكس مبادرات سابقة حملت اسم الرئيس وليس وزير الخارجية، أبرزها ما يُعرَف بـ «كلينتون باراميترز» التي طرحها الرئيس الأسبق في السنة الأخيرة من ولايتين له فيما كان بوسعه طرح تلك المبادرة باكراً. 

البعض يعتبر «رؤية كيري» محاولة لإنقاذ تركته البائسة وسمعته التي لوثتها تنازلاته المدهشة في سورية أمام نظيره الروسي الحذق سيرغي لافروف، فوجد نفسه يغادر وزارة الخارجية ومشاهد المجازر في حلب تلاحقه. وهرول إلى التعويض. البعض الآخر لفت إلى أن كيري استثمر كثيراً لسنوات عدة وبذل جهداً ضخماً مع الإسرائيليين والفلسطينيين بهدف تحقيق السلام بينهما وتطبيق حل الدولتين الذي هو شخصياً مقتنع تماماً بجدواه للإسرائيليين والفلسطينيين على السواء والذي يلاقي الإجماع الدولي، بما في ذلك - افتراضاً - دعم إسرائيل. 

وعليه، انطلق إلى محاولة أخيرة لإنقاذ حل الدولتين حرصاً على المصالح الأميركية القومية، واندفاعاً للمصلحة الإسرائيلية والفلسطينية، ووقاية من مستقبل قاتم للطرفين ولمنطقة الشرق الأوسط. البعض يعتبر ما فعله كيري، مهما كان صادقاً في إيمانه بالرؤية ومبادئها، كان خطأ سياسياً سيكلف الفلسطينيين غالياً لأن توقيت الرؤية في أعقاب السماح بتبني مجلس الأمن القرار 2334 وضع دونالد ترامب في موقع حرج وهو يرث ما لا يرغب به عن إدارة أوباما. إنما هناك من يعتقد أن ما تتركه إدارة أوباما لإدارة ترامب من أرضية قانونية وسياسية، دولية وأميركية، في شأن حل الدولتين إنما هو هدية ثمينة جداً سيدرك ترامب أهميتها لو توقف قليلاً ودرسها عميقاً بدلاً من التسرع إلى إطلاق التهديدات والتوعد والوعود المضرّة للمصلحة الأميركية وكذلك لإسرائيل.

بنيامين نتانياهو واضح في حملته على القرار 2334 ورؤية كيري، بل إنه اتهم وزير الخارجية الأميركي بالكذب عندما تحدى ما قاله إن الولايات المتحدة لم تكن صانعة ذلك القرار في الأمم المتحدة. إنه يتأهب للاستفادة الكبرى بابتزاز مدروس لهذا «الخطأ»، وكذلك لما يعتبره فرصة تاريخية أتته بتعيين دونالد ترامب سفيراً أميركياً لدى إسرائيل يؤمن بالمستوطنات الإسرائيلية وبنقل السفارة الأميركية إلى القدس، اعترافاً بها كعاصمة موحدة لإسرائيل. فالمرشح للمنصب، ديفيد فريدمان، المحامي الخبير بمسائل الإفلاس، يعارض قيام الدولة الفلسطينية ويكره مبدأ حل الدولتين كأساس مع الإقرار بضرورة مقايضة بعض الأراضي حرصاً على استمرار بعض المستوطنات. فالرجل واضح بأنه العدو اللدود لكل ما مثّلته إدارة أوباما، وقبلها كافة الإدارات السابقة لجهة مبادئ حل النزاع الفلسطيني - الإسرائيلي والإسرائيلي - العربي.

لعل إعلان ترامب عزمه تعيين ديفيد فريدمان في هذا المنصب كان من عوامل اقتناع إدارة أوباما أن واجبها الوطني يملي عليها حماية المصلحة الأميركية العليا عبر القرار الدولي وعبر رؤية واضحة تحدد المبادئ الأميركية لأسس حل النزاع.

ردود فعل دونالد ترامب لا توحي بأن الرئيس الآتي إلى البيت الأبيض سيتصرّف بعقلانية وبمسؤولية. فهو كان أثناء الحملة الانتخابية أقل عقائدية في العلاقة مع إسرائيل بل كان تحدث عن دور «حيادي» للوسيط الأميركي في هذا النزاع. إجراءات ترامب كرئيس منتخب وقعت تحت نفوذ صهره، جاريد كوشنر زوج إيفانا ترامب التي اعتنقت اليهودية من أجله. إنما الدليل الأكبر على اعتزام ترامب الاحتفاء مع نتانياهو بدفن حل الدولتين هو ديفيد فريدمان الذي لا يخفي كراهيته القاطعة لمبادئ هذا الحل ولكل مَن يدعمه، بما في ذلك قطاع مهم من اليهود الأميركيين وكذلك جزء من القاعدة الشعبية الإسرائيلية.

ما فعله جون كيري هو أنه تحدى إسرائيل، بالذات حكومة نتانياهو، إلى الصدق في مسألة حل الدولتين. كان واضحاً في شرح كيف أن الإجراءات الاستيطانية تحول عملياً وعلى الأرض دون قيام الدولة الفلسطينية. كان مصرّاً على أن القيم الأميركية هي التي تجعل التمسك بحل الدولتين ضرورة أخلاقية واستراتيجية. أكد التزام الولايات المتحدة بالدفاع دائماً عن أمن إسرائيل، وأشار إلى أن إدارة أوباما قدّمت لإسرائيل أكثر من أية إدارة سابقة، إن كان بقيمة نصف كامل التمويل الأميركي الخارجي أو عبر التعاون الاستخباراتي العسكري الذي لا سابقة له. لكن كيري أيضاً حذر من أن إعدام حل الدولتين سيؤدي إلى قيام دولة واحدة في إسرائيل، يهودية إنما غير ديموقراطية، ولن يكون في وسع الولايات المتحدة الدفاع عنها كونها حصيلة التطرف الإسرائيلي الذي سيستدعي التطرف الفلسطيني والعربي والإسلامي.

معظم مبادئ رؤية كيري الست هي عبارة عن مبادئ إجماع دولي تمضغه الإدارات الأميركية عبر العقود. الجديد هو إيضاح هذه المبادئ في رزمة تتقدم بها إدارة أوباما تستند إلى القرارات الدولية. ففي المبدأ الأول الدعوة إلى إقامة حدود آمنة ومعترف بها دولياً بين إسرائيل وفلسطين، قابلة للاستمرار وذلك عبر التفاوض على أساس حدود 1967 مع تبادل متساوٍ لأراضٍ يقبل بها الطرفان.

هذا مبدأ كُرِّر عبر الإدارات المتتالية. الجديد هو أن جون كيري تحدث عن القرار 242 للعام 1967 الذي لم يُطبَّق على فلسطين في الماضي وإنما كان أساس المفاوضات مع سورية والأردن. بذكره القرار 242 في إطار حل الدولتين وقوله إن «الأسرة الدولية لن تعترف بأي تغيير تقوم به إسرائيل لحدود 1967 ما لم يقبله الطرفان»، يوسّع كيري رقعة القرار 242 لتشمل فلسطين. وهذا أمر مهم إذا توجهت الدول الأوروبية إلى مجلس الأمن بالمبادئ الست في مشروع قرار لأنه سيكون عبارة عن جديد قانوني.

كيري ذكر في المبدأ الثاني قراراً شهيراً آخر هو القرار 181 الصادر عن الجمعية العامة عام 1947 بشأن قيام الدولتين لشعبين، أحدهما يهودي والآخر عربي. لكن كيري لم يذكر القرار 194 المعني باللاجئين الفلسطينيين وحق العودة أو التعويض واكتفى بالدعوة إلى حل عادل ومقبول وواقعي لمشكلة اللاجئين.

في المبدأ الرابع طرح جون كيري أمراً يعارضه المتطرفون في حكومة نتانياهو معارضة قاطعة ويدعمهم بذلك المرشح لمنصب السفير الأميركي لدى إسرائيل وهو «إيجاد حل مقبول من الطرفين للقدس كعاصمة معترف بها دولياً للدولتين وحماية وتأمين حرية الوصول إلى المواقع الدينية».

وفي المبدأ الخامس ذكر جون كيري كلمة سعت حكومة نتانياهو إلى محوها وإلغائها من القاموس السياسي وهي كلمة الاحتلال. إذ تحدث عن «إنهاء كل احتلال بشكل كامل». في الفقرة ذاتها أثار كيري حفيظة الفلسطينيين لأنه تحدث عن دولة فلسطين تتمتع بالسيادة إنما «منزوعة السلاح».

ما فعله جون كيري في المبدأ السادس كان يجب على الإدارات السابقة أن تفعله منذ تبني قمة بيروت العام 2002 مبادرة السلام العربية التي أوضحت استعداد الدول العربية للاعتراف بحق إسرائيل بحدود آمنة مقابل انسحابها إلى حدود 1967 والتوافق مع فلسطين على حدود الدولتين.

هذه المبادئ ليست جديدة لكن أهميتها هي في تقديمها كرزمة أميركية. القرار 2334 في شأن الاستيطان ليس جديداً من حيث تحديه شرعية الاستيطان ومطالبته إسرائيل التوقف عنه وتفكيك البؤر الاستيطانية. ففي عهد جيمي كارتر صوتت الإدارة الأميركية لمصلحة قرار مشابه حول الاستيطان ثم أُرغمَت على تغيير صوتها من «مع» إلى «امتناع». إدارة جورج بوش الأب استخدمت عام 1991 حجب ضمانات القروض بقيمة 10 بلايين دولار ومساعدات اقتصادية أخرى إذا استمرت إسرائيل في رفضها «تجميد» المستوطنات. وفي عام 2003، في مطلع ولاية جورج دبليو بوش، تبنى مجلس الأمن بمبادرة أميركية وبالإجماع القرار 1515 الذي صادق على «خريطة الطريق» لقيام الدولتين، إسرائيل وفلسطين، جنباً إلى جنب.

الجديد في القرار 2334 الذي دأب سفير فلسطين لدى الأمم المتحدة رياض منصور على العمل عليه منذ مطلع السنة ليلاقي مقاومة عربية له عبر اللجنة الوزارية وعبر العضو العربي الوحيد في مجلس الأمن - مصر - هو أن القرار ينطوي على «آليات تطبيق وميكانيزم مراقبة التنفيذ»، كما يقول منصور مضيفاً: «هذا القرار يقوّي ساعد المدعية العامة في المحكمة الجنائية الدولية لفتح تحقيق في جرائم الحرب الذي نطالب به كدولة فلسطين - ونحن عضو في المحكمة الجنائية». فالآن، في وسع فاتو بن سوده الانتقال إلى مرحلة التحقيق الرسمي بعدما أمضت سنتين وهي تقوم بفحص أولي «وهذا ما جعل نتانياهو يفقد اتزانه»، كما يقول منصور الذي يرى أن القرار «يطالب الدول أن تميّز في علاقاتها مع إسرائيل بين ما قبل 1967 وبين الأراضي المحتلة عام 1967 بما فيها القدس الشرقية، وهذه للمرة الأولى».

نيوزيلاندا لعبت دوراً محورياً في دفع هذا القرار ودعمتها في ذلك فرنسا وبريطانيا والولايات المتحدة وليس فقط ماليزيا وفنزويلا والسنغال التي أصرت على طرح مشروع القرار على التصويت بعدما تراجعت مصر عن ذلك نتيجة مخابرة هاتفية بين دونالد ترامب والرئيس عبدالفتاح السيسي في شبه قفز على التقاليد الديبلوماسية. فالرئيس المصري يراهن على علاقة مميزة له مع الرئيس الأميركي الجديد. لذلك، إن عبء إثبات الترحيب بمبادئ كيري واعتبارها تنسجم مع الرؤية المصرية يقع على العضو العربي الوحيد في مجلس الأمن، وليس فقط على الدول الأوروبية والآسيوية والأفريقية. إقناع ترامب بصحة الرؤية ومبادئها، هو التحدي الأكبر للديبلوماسية المصرية في وجه الذعر الإسرائيلي من القرار 2334 ومبادئ كيري الستة الآتية عبر صرخة استغاثة تحتاج تلبيتها جرأة دولية وعربية.