علي جازو

كان رجال الدرك والشرطة، ممن تسنّى لهم نيلُ مقام خاص وفق إمكاناتهم وخصالهم التي أساسُها مزيجٌ من الابتزاز والمكر، يعانون من سوء الهضم بسبب قلة الحركة والنّهم ذي الدافع الطبقي المزيف وجزيل العطايا و «البقشيش»! كانوا من مُفضلي وجبات الدجاج على غيرها، وربما يعود السبب إلى أن المقايضة الريفية العينية كانت أسبق منها على مبادلة المنفعة القسرية بالمال ذي القيمة المجردة والشاملة.

وعلى رغم رمادية غرفهم الباردة التي لا تختلف أسرَّتُها في شيء عن أسرَّة المساجين، حيث ينامون ويعملون معاً، والتي قلّما يغادرونها حتى أثناء أيام العطل، كانت البشاشة تعلو وجوههم، بخاصة إذا ما حظوا بزبون قليل الحيلة سريع الرغبة في التخلص مما تورّط فيه، إلى جانب كونه غنياً «دافئ الجيب». غير أن آخرين من هؤلاء الزبائن الدافئي الجيوب، ولم يكونوا قلة، اتفقوا عرفاً متوارثاً على ربط الإكرامية الواجبة للشرطي بوجبة من الدجاج المشوي – على رغم افتتاح بورصة مال في دمشق - تُطلب من مطعم قريب من المخفر، وسرعان ما تتحول البشاشة إلى يسر غامر في التعامل، ويخرج الزبون المتورط مما تورط فيه بسهولة، وتتحول العلاقة بين الزبون الذي يذكر الشرطي برائحة الدجاج المشوي، والشرطي الذي يخلص الزبون من الورطة، إلى صداقة قد تبلغ ذراها أن أحدهما يأتي على ذكر صديق مشترك يقطن في العاصمة دمشق ويعرف ذاك الصديق، وهنا تأتي الذروة المنتشية، ضابطاً في القصر الجمهوري!

غير أنّ الحاج شاكر، رحمه الله، تعرّف مباشرة إلى ضابطٍ قريب الصلة من هؤلاء، وصارا يتبادلان النكات والطرائف على طاولة العشاء شبه اليومية، في بلدة من بلدات سورية النائية. وبسبب قوة العلاقة ومتانتها العشائية الطاولية التي كانت تعلوها زجاجات عَرَقٍ سوري أصيل ورخيص معاً (الشرب هنا علامة مزدوجة ومن إحدى سمات العلمانية السورية واليسارية غير الطبقية لمن يُعلي من شأن علوم السيمياء)، كان يمكن الأسرار الشخصية والعامة والرسمية أن تتدفق بين الرجلين تدفّقَ المحبة التي شدّت الصلة العميقة بينهما.

وحدث في صبيحة يوم من أيام الشتاء الباردة برداً شديداً أنْ دَبّ خلاف طارئ بين الحاج والضابط، وهو خلاف غير شخصي، إذ مصدره قانون خدمة العلم (التجنيد الإجباري). بالغ الضابط في رفع صوته حينذاك، ولم تكن غايته الحطّ من شأن الحاج شاكر فحظوته محفوظة، بل كان يرسل إشارة هادرة إلى المجندين خارج مكتبه الواقفين في الممر برفقة مراجعين كثر وقفوا أيضاً في طابور أمام مكتب التجنيد حتى يحل دورهم، أن عليهم الانتظار أكثر وربما العودة غداً حتى تهدأ سورة غضبه.

لكن الحاج الفطن لم يفقد مزاج المرح المعهود بينهما، وسرعان ما رفع كُتيب قانون خدمة العلم في وجه الضابط الذي استشهد بنصوصه الجازمة جزماً قاطعاً أن لا حل للمجند الذي جاء الحاج لأجله إلى مكتب الضابط كي يخلصه من واجب خدمة العلم. 

والحقيقة أن الضابط حينذاك قال للحاج: «ما فيّي غيّر القانون»، فردّ الحاج متسائلاً بمرح وابتسامة تغمر عينيه الصغيرتين: «من وضع القانون»؟ فردّ الضابط: «حافظ الأسد موقّع عل قانون يا زلمة»، فما كان من الحاج إلا أن فتح الصفحة الأخيرة البيضاء من الكتيب وقال ممازحاً وجاداً في آن: «اكتبْ، يخلى سبيل المجند فلان الفلاني، التوقيع: الحاج شاكر».

بدءاً من عالم الدجاج المشوي، مخفراً جائعاً لصقَ مطعمٍ خدومٍ، حيث عبقرية المقايضات اليومية الطبقية، وفطور رجال الدرك والشرطة، وعبوراً على عشاءات الحاج والضابط العلمانية المرفهة، وانتهاء بالقانون الأخير الذي أصدره على الصفحة الفارغة الأخيرة، كانت البطون تجوع وتنهب ناهشة بعضها بعضاً، والجيوب تُملأ هنا وتُفرغ هناك، والأفواه تشده، والألسنة تهذي، فيما القلوب والعقول معاً وحيدة يتيمة تُشوى على وقع البرد والضحك الحزين.


* كاتب سوري