محمد طيفوري من الرباط

إمعان النظر في مختلف الأحداث التي كان العالم مسرحا لها هذا الشهر "محافظو حكومة ترمب، صعود اليمين الفرنسي، مذبحة حلب، إرهاب برلين، إسلاموفويا زوريخ، هجوم الكرك، اغتيال أنقرة، خطف الطائرة الليبية،..."، كاف لتشكيل الصورة العامة عن بقية أشهر السنة، بما شهدته من وقائع بعضها بات طي النسيان بفعل تزايد دوامات الزمن الفائق التي نعيش على إيقاعها دون أن ندرك ذلك.

أيام قليلة تفصلنا إذن عن انقضاء سنة نوعية بكل ما تحمله الكلمة من معان، فعديد من الأحداث السياسية الكبرى التي كنا شهودا عليها هذا العام، ترفض أن يكون أثرها - على هذا الواقع المأساوي - لحظيا، لذا أضحى لزاما علينا انتظار تبعاتها المتراخية إلى السنين المقبلة، إن امتد الأمر إلى عقود من الزمن.

إفلاس غربي

في هذه السنة انتقلت الدول الغربية التي اعتادت الركون إلى مقعد المتفرج على الأحداث والمآسي، التي تدور في أركان العالم إلى قلب الأحداث والصراعات. فعلى المستوى السياسي وضعت السياسات الشعبوية التي تغزو أوروبا حدا للوحدة الأوروبية بقرار البريطانيين مغادرة سفينة الاتحاد، معلنين بذلك العودة إلى خيار الدولة القومية المستقلة. خيار يتهدد دولا أخرى في ظل استمرار موجات اكتساح أحزاب اليمين في الانتخابات؛ محليا وجهويا ووطنيا، وحتى على مستوى برلمان الاتحاد. موجة لا شك سيتصاعد مدها، بعدما فرضها الأمريكيون في انتخاباتهم الرئاسية الأخيرة تحت مسمى "الترامبية".

وعلى المستوى الأخلاقي والإنساني اكتشف العالم نفاق الغرب، حين ظهر الوجه الآخر لهذه الحضارة بتنكرها لكل القيم الإنسانية؛ التي تدعي اعتناقها والعمل على إشاعتها، لما نكصت مولية الأدبار فيما يخص مسألة اللاجئين، بالتراجع عن الوعود التي قطعتها على نفسها سابقا، وهو ما سيبقى وصمة عار على جبين أوروبا القرن الحادي والعشرين.

في الجانب الأمني أيضا كانت القارة العجوز على موعد مع الفشل في أكثر من حادثة، فقد كانت كبرى المدن الأوروبية مسرحا لعديد من الاعتداءات؛ منها التي شهدتها عدة أماكن "المطار، محطة المترو" في عاصمة الاتحاد بروكسيل، ثم أحداث نيس الفرنسية التي خلفت 84 قتيلا، والضربات المتوالية لألمانيا "ميونيخ، فورتسبورج، برلين" القلب الاقتصادي الأوروبي النابض.

صفوة القول إننا أمام إفلاس بيِّن للعقل الغربي، عندما قرر تغليب المصالح على المبادئ، في عالم معولم لا يعترف بالحدود ولا بالجغرافيا. أليس قمة في الجنون أن تعامل الدبلوماسية الغربية مناطق عدة في العالم؛ وعلى رأسها منطقة الشرق الأوسط، وكأنها قطع خارج التاريخ المعاصر بمشاهدها المرعبة، وكأنها لقطات من فيلم تاريخي عن العصور الوسطى والحروب الدينية.

مأساة عربية

يستمر عرس الدم العربي في المشرق، بفعل تكالب القوى دولية وإقليمية "روسيا وإيران"، وتخاذل بعض الأشقاء ممن فضلوا الارتماء في أحضان مشاريع طائفية أو أحلاف عسكرية واصطفافات أيديولوجية، في وقت كان حريا بهم الوفاء لخطة الحزم التي لولاها لكان الأخطبوط الصفوي حاضرا في كثير من العواصم العربية، مشعلا بذلك حرائق المذهبية في دول عربية أخرى غير تلك التي تقاوم شعوبها اليوم المد الإيراني بكل ما أوتيت من قوة.

مذابح بالجملة في سورية والعراق واليمن وليبيا... دخل بعضها التاريخ "حلب مثلا"، أُسيل فيها من الدم العربي الكثير، لأبرياء وعزل ممن لا ذنب لهم فيما يجري؛ سوى أن قدر التاريخ أو سلطة الجغرافيا أو قناعة الإيمان حشرتهم في زمرة من يرى "السلاف" و"الفرس" و"الدواعش" أنهم شر مطلق عليه القضاء عليه، بمبررات دينية أو طائفية أو جيوسياسية.. أو غير ذلك.

سنة صار فيها الدم العربي والمسلم رخيصا، من كثرة تدفقه في الحروب الإقليمية والأهلية والنزاعات المذهبية والصراعات الدولية. لدرجة جعلت العالم يستهين بمشاهد القتل المروعة، حتى ما عاد أحد يتألم لمشاهد الأطفال وهم يخرجون من تحت الأنقاض، قتلى وجرحى ويتامى ومشردين. لم تعد للدم العربي القيمة نفسها التي يحوزها الدم الغربي والأوروبي والأمريكي. إن إنسانيتنا باختصار تبقى في حدود الدرجة الثانية أو الثالثة.. أو ربما خارج التصنيف.

فوضى عالمية

تدخل ميداني في هذا البلد أو قصف عسكري لذاك، أو فقط تصويت ضد هذا القرار في الأمم المتحدة التي لم تعد صالحة سوى لإحصاء الضحايا، وتسجيل أسماء اللاجئين، وإطلاق صفارات الإنذار التي لا يسمعها أحد، يقابل باغتيال شخصية رفيعة المستوى أو خطف مواطنين واحتجازهم رهائن أو اعتداء إرهابي بشتى الطرق وأغرب الوسائل.. إلى آخره، ما يزيد من اتساع رقعة الصراعات غير المضبوطة أو بالأحرى السائلة. إن العالم بأسره ينجر إلى أتون حروب جديدة، ويفتح بؤر نزاع لغة التواصل الأولى فيها هي السلاح. إنها حرب بلا حدود ولا خرائط، بلا أسلحة تقليدية ولا قواعد ولا أعراف، ولا أطراف تعرف مطالب بعضها بدقة.. فوضى غير خلاقة تدمر الإنسان، وتحول المدنيين إلى أعواد ثقاب تشتعل لتضيء للقوى الإقليمية طريقها للهيمنة ثم تنطفئ. هكذا هو الوضع المأساوي الذي لم يعد البعض منا قادرا حتى على متابعته عبر شاشات التلفزة وأعين الكاميرا، لملايين المهجرين وعشرات الآلاف من اللاجئين وآلاف الضحايا والمعطوبين واليتامى والمفقودين.

هذه الفوضى غير الخلاقة تخبرنا بحقيقة واحدة مفادها انعدام قيادة تحرس العالم، وترعى السلم والأمن الدوليين، ولا توجد حتى غرفة لهذه القيادة، وهذا ما سمح لشرذمة من المجانين في العالم تحركها نعرات الطائفية والمذهبية والقومية باستعمال السلاح وسيلة سهلة لرسم خرائط ومناطق نفوذ جديدة.

إن حجم الخيبات التي تعترينا ونحن على أعتاب الأيام الأخيرة لهذه السنة، لا تقل عن حجم الأماني التي راودت الكثير منا عند استهلالها، فما أكثر الآمال المعقودة عليها حينها، كي تكون سنة سلم وسلام وأمان للإنسانية؛ أو على الأقل تخفيف معاناتها ما دام إنهاؤها مستحيلا.

حال يذكرنا بجواب الرئيس البوسني الراحل علي عزت بيجوفيتش في مذكراته عن سؤال كيف هي خيبة الأمل؟ بقوله "تكون بمقدار الأمل نفسه، الأمل الكبير يُولد خيبة أمل كبيرة".