أمير طاهري 

 في الثقافات الكلاسيكية، فإن كل عام، بدلاً من أن يحمل رقمًا، يمنح اسمًا مكانه. ويمكن أن يكون اسمًا لمعركة كبرى مثل «عام الفيل» عندما غزا الأحباش شبه الجزيرة العربية، أو مسمى لكارثة طبيعية استثنائية، مثل عام «الجراد» الذي ميز بداية النهاية لحضارة سومر القديمة، أو حتى اسمًا لنهر غامض في شمال روما، وهو نهر روبيكون، والذي تسبب عبور قيصر له في اندلاع الحرب الأهلية التي أسفرت عن وفاة الجمهورية الرومانية وظهور الإمبراطورية مكانها.
وكما أن مختلف الثقافات أنشأت مختلف التقويمات السنوية وتعلمت كيفية استخدامها، فإن ممارسة إلحاق اسم معين ببداية كل عام قد انزوت إلى غياهب التاريخ بمرور الوقت.
وفي عام 1937، أحيا الكاتب الفرنسي، والسياسي اللاحق، أندريه مالرو، التقليد القديم الذي يشير إلى مطلع العام الجديد بمسمى «غرنيكا»، وهي البلدة الصغيرة في إقليم الباسك إلى الشمال الشرقي من إسبانيا والتي تعرضت إلى أول حادثة من القصف البساطي في تاريخ الحروب على أيدي سلاح الجو الألماني النازي والإيطالي الفاشي.
وفي سياق الحرب الأهلية الإسبانية، ثم وفي عامها التالي، كانت الإبادة الجوية لبلدة غرنيكا من دون قيمة عسكرية تذكر. ولكن من الناحية الرمزية، رغم كل شيء، فإنها كانت بمثابة نقطة التحول البارزة في الصراع والتي، كما أثبتت الأحداث اللاحقة، كانت مثار أهمية قصوى لدى كافة ربوع أوروبا وبأكثر من حالة العزلة الإسبانية وقتذاك.
وبعض من المفكرين الغربيين، ومن بينهم الكاتب الفرنسي مالرو والكاتب البريطاني جورج أورويل، قد عرفوا الحادثة باعتبارها نهاية حالة السلام المؤقتة التي تأسست في القارة العتيقة مع نهاية الحرب العالمية الأولى.
اختتمت غرنيكا مصير عصبة الأمم إلى غير رجعة، وهي المنظمة السابقة على الأمم المتحدة كضامن أمين لبعض من آثار القانون الدولي.
وبمزيد من الأهمية، ربما، كانت غرنيكا سابقة على مقدمات الحرب العالمية الثانية باعتبارها الحرب الكبرى ما بين معسكر الديكتاتورية والديمقراطية في تاريخ القارة الغارقة في الدماء.
ولقد استحدث ذلك الهجوم شكلاً جديدًا من أشكال الحرب التي لم يكن الهدف منها إضعاف أو تدمير الخصم المسلح ولكن إبادة أكبر عدد ممكن من المدنيين غير المقاتلين بقدر الإمكان. ولقد كان هذا بمثابة بروفة مسبقة لما سوف يأتي لاحقًا، وإن كانت بروفة على نطاق ضيق للغاية، للقصف البساطي لمدن لندن، ثم دريسدن وبرلين، الذي تجاوز كافة مبررات الحرب من الناحية العسكرية المحضة. وعلى مدار التاريخ كانت الحرب تعني الصدام بين قوتين مسلحتين مع حفنة من المدنيين المطلوب منهم الإذعان للمنتصر في نهاية الصراع. ولكن في غرنيكا، رغم ذلك، كان الهدف هو ترويع السكان المدنيين بدرجة غير مسبوقة حتى قبل انتهاء الصراع. ولقد غسلت الديمقراطيات الغربية، وعلى رأسها بريطانيا وفرنسا، أيديها تمامًا من الأمر وراقبوا المأساة في هدوء عجيب وفي إشارة غير معلنة ومفهومة إلى دول المحور المعادية بأن أحلام غزو العالم لديهم قد لا تلقى أي درجة من المقاومة تذكر.
مع كل ذلك في الاعتبار، هل سيكون من قبيل التجاوز الشديد أن نتساءل عما إذا كان يمكن إطلاق مسمى حلب على عام 2016؟
المدينة السورية، التي استوت بالأرض إثر القصف البساطي العنيف من مقاتلات سلاح الجو الروسي والقصف المدفعي غير المتناهي من فلول جيش بشار الأسد المدعوم من الجيش الإيراني والمرتزقة اللبنانيين، والأفغان، والباكستانيين، هي مدينة أكبر من حيث المساحة وعدد السكان من بلدة غرنيكا الإسبانية الصغيرة. وهناك، كان عدد الضحايا أيضًا أكبر وأضخم. ولكننا نعيش في عصر كل ما فيه كبير وعظيم، وفي كثير من الأحيان، مروع ورهيب.
ولما وراء ذلك، فإن التشابه ما بين الحادثتين حقًا مريع.
ففي غرنيكا، استهدفت القاذفات الألمانية والإيطالية عن عمد المدارس والمستشفيات وحتى الأسواق والبازارات، تمامًا كما صنعت روسيا وحلفاؤها في حلب السورية.
وفي كلتا الحالتين، لم تسمح القوات المهاجمة لجماعات الإغاثة الإنسانية بالوصول إلى الناس المحاصرين في الجحيم المستعر داخل المدينة المستهدفة.
هاجمت الطائرات الألمانية والإيطالية في غرنيكا قافلة إغاثية صغيرة مكونة من بعض المتطوعين من فرنسا وبريطانيا، أما في حلب، فدمرت المقاتلات الروسية قافلة إغاثة مماثلة على الرغم من حقيقة حصول تلك القافلة على الموافقة من الأمم المتحدة ومنظمة الصليب الأحمر الدولي.
وقبل غرنيكا، كان الصراع الذي شهدته إسبانيا عبارة عن الحرب الأهلية بين مختلف الفصائل المتناحرة التي تتمتع بقدر من الدعم من قوى خارجية. ولقد حولت غرنيكا ذلك إلى قتال على نطاق موسع حول من سوف يهيمن على القارة الأوروبية، وبالتالي العالم بأسره.


ومن شأن حلب أن تشير إلى تحول مماثل في الأحداث مع الحرب الأهلية التي تتمدد لتكون صراعًا واسعًا من أجل الهيمنة في الشرق الأوسط، ومنطقة البحر الأبيض المتوسط، وما وراءه.
تبدو حلب كمثل سطر النهاية للكثير من الأشياء في هذه المنطقة.
وقد يتساءل المرء ما إذا كانت الأمم المتحدة لن تلقى نفس مصير عصبة الأمم. وبعد كل شيء، ما جدوى المنظمة التي لا تستطيع مجرد السماح بالإدانة اللفظية لعمليات القتل الجماعي للمدنيين على أيدي واحدة من الدول المالكة لحق النقض (الفيتو)؟
والأسوأ من ذلك، أن الأعضاء الآخرين المالكين لنفس الحق قد تمسكوا بكل عناية بالكليشيهات الرصينة ذاتها أو لزموا الصمت المطبق على الدوام.
اعترضت كل من روسيا والصين على خطة السماح بوصول المساعدات الإنسانية إلى حلب، وأراقت بريطانيا وفرنسا دموع التماسيح على المأساة ولكنهما رفضتا حتى التفكير في إسقاط شحنات الإغاثة من الغذاء والدواء على السكان المحاصرين أثناء انطلاق روسيا في عمليات الإبادة المنظمة. أما الولايات المتحدة، في عهد الرئيس أوباما الحائز جائزة نوبل للسلام، فقد صنعت ما هو أسوأ بالعزف على قيثارة «مشورة الشركاء الروس للوصول إلى حل سياسي».
فضحت حلب المزاعم الوقحة لما يسمى بالتحالف المناهض للحرب الذي هو على استعداد دائم لتنظيم المسيرات في شوارع لندن، وباريس، ونيويورك ضد مجرد التهديد بأي إجراء يُتخذ ضد الأنظمة الاستبدادية مثل الجمهورية الإسلامية في إيران، أو نظام فيدل كاسترو في كوبا، ولكنه لم يكترث كثيرًا بالمذابح المروعة الجارية في حلب.
كما كشفت حلب أيضًا عن الوجه الحقيقي للنظام الخميني في طهران، وفضحت النزعة الانتهازية القميئة والتعطش السافر للسلطة لدى المافيا الحاكمة هناك، على الرغم من الاستخدام الزائف للمفردات الإسلامية الرنانة، وهو النظام الأكثر من مستعد لأن يلعب الدور الثاني القذر في مواجهة القوة «الكافرة» الطموحة لذبح المزيد من المسلمين العزل.
وفي الوقت الذي ينشر فيه هذا المقال، يكون محور موسكو - طهران يحتفل بالفعل بـ«الانتصار العظيم» في حلب كمثل ما احتفلت برلين وروما قديمًا بدمار غرنيكا ووفاتها. ولكن كما أن حادثة غرنيكا لم تحقق النصر الاستراتيجي للمحور النازي الفاشي من قبل، فإن إبادة حلب من غير المرجح أن تخدم طموحات بناء الإمبراطوريات التي تتيه بأحلام وعقول موسكو وطهران.
ولا يعني ذلك أن اليوم، على الرغم من مروقهما دوليًا، يمكن اعتبار روسيا وإيران كمثل ألمانيا وإيطاليا في عام 1937، والواضح في هذا الأمر، رغم كل شيء، أنهما تطبقان نفس التكتيكات التي لا ينبغي السكوت عنها وعلى استخدامها في مرحلة ما بعد الشيوعية وعالم ما بعد الفاشية.
وبصرف النظر عما سوف يحدث لاحقًا في هذه الحرب المريرة، فهناك أمر واحد أكيد: سوف يتذكر العالم بأسره عام 2016 بأنه عام مدينة حلب، مدينة شهداء سوريا الأبطال.