سليم نصار

عقب صدور قرار مجلس الأمن المتعلق بعدم شرعية المستوطنات الإسرائيلية، وصلت الى تل أبيب نورتون دنلوب، إحدى المساعدات البارزات في فريق الرئيس الأميركي المنتَخَب دونالد ترامب. ورافقها في هذه الجولة وفد من أعضاء الكونغرس الأميركي عن الحزب الجمهوري وأعضاء في البرلمان الأوروبي. وصرحت إثر زيارتها بعض المستوطنات اليهودية في الضفة الغربية، بأنها متعاطفة جداً مع الإسرائيليين. وقالت أيضاً أنها تعتبرهم على حق في اختيار مكان سكنهم داخل وطنهم الكبير. ثم دعمت تصريحها بشرح لوجهة نظرها، قائلة: «بصفتي مواطنة أميركية، أرى أنه من حق الإسرائيليين الحصول على مساحات كافية لتوسيع مجتمعاتهم وبيوتهم بحيث يتمتع أطفالهم بمناطق آمنة بعيدة من التهديد والتخويف».

ولم تكن هذه المندوبة الأميركية سوى نموذج صارخ لأعضاء إدارة الرئيس دونالد ترامب، الذي اتصل بالرئيس المصري عبدالفتاح السيسي قبل التصويت على مشروع القرار، طالباً منه إرجاء الجلسة بهدف التشاور. وكان ترامب يعبّر في الوقت ذاته عن رغبة رئيس وزراء إسرائيل بنيامين نتانياهو.

ويدين القرار الاستيطان، ويدعو الى وقفه وعدم الاعتراف بشرعيته، والى استئناف المفاوضات ضمن إطار زمني. كما يدعو الى وقف فوري لجميع نشاطات الاستيطان في الأراضي الفلسطينية المحتلّة، بما فيها القدس الشرقية، ويعتبر أن بناء المستوطنات عقبة كبرى أمام تحقيق حل الدولتين، وأمام سلام عادل ودائم وشامل.

تعليقاً على هذا القرار، شنّ نتانياهو هجوماً عنيفاً على الرئيس باراك أوباما ووزير خارجيته جون كيري، واتهمهما بالتآمر مع الفلسطينيين بسبب امتناع المندوب الأميركي عن التصويت وعدم استخدام حق الفيتو.

إضافة الى هذه الصفعة السياسية الدولية، تلقى نتانياهو صفعة مماثلة قبل شهرين من منظمة اليونسكو. ذلك أن مديرتها اتهمت حكومة إسرائيل بتدمير المواقع التراثية في القدس القديمة التي تخص المسلمين. وطالبت بضرورة التقيد بتعليمات الوثيقة التي أصدرتها اليونسكو سنة 1981، والتي تعلن فيها القدس القديمة وأسوارها مواقع تراث عالمي. وجاء في المادة 16 من الوثيقة، تحذير من إقامة مشاريع بناء سياحية فوق هذه المنطقة.

بعد حرب الأيام الستة سنة 1967، تجاوزت إسرائيل كل المحاذير المتعلقة بالمواقع التاريخية، وراحت تهدم وتبني، ملحقة الضرر بالبيوت العربية ومقدسات المسلمين والمسيحيين.

ومن أخطر المشاريع السياحية المعدة لتغيير معالم القدس - الشرقية والغربية - مشروع «القدس - 5800». وهو مشروع يقتضي تنفيذه سنوات عدة، عرضه متبرع يهودي من أستراليا يُدعى كوين بريمستر. وتشمل خطة المشروع مساحات شاسعة تتّسع لبناء سلسلة فنادق ومطار دولي كبير يقع بين البحر الميت وأريحا، ومحطة للقطارات، زائد منطقة تجارية وصناعية بالقرب من قلندية.

في بداية الخطة، وضعت ستة مبادئ أساسية، جميعها تتحدث عن يهودية القدس، «قلب دولة إسرائيل والشعب اليهودي». المبدأ الثاني يقول أن زيادة سكان اليهود في القدس لن تكون بناء على التكاثر الطبيعي بل من خلال الهجرة المتواصلة. المبدأ الثالث يذكر أن القدس مدينة مقدسة للديانات الثلاث. واللافت، أن كلمة «فلسطينيون» غير مذكورة في نشرة الخطة. بينما تُذكَر كلمة «مسلمون» إحدى عشرة مرة، منها ثماني مرات في الفصل الذي يتحدث عن التهديد الديموغرافي المتوقع خلال العشرين سنة المقبلة.

حقيقة الأمر أن نتانياهو لم يغضب من قرار مجلس الأمن بقدر غضبه من الرئيس أوباما الذي تجرأ على اتخاذ موقف مناقض للموقف الإسرائيلي. علماً أنه أغدق على دولة اليهود خلال ولايتيه مساعدات سخية - اقتصادية وعسكرية - لم تعرفها إسرائيل منذ عهد ترومان. أي منذ عهد أول رئيس أميركي اعتمد على دعم صديق يهودي لكسب معركة الرئاسة. وبعد نجاحه، عقد ترومان مؤتمراً صحافياً قرر خلاله ضرورة استيعاب مئة ألف يهودي من أوروبا في أرض فلسطين، ورفع القيود عن شراء الأراضي من جانب اليهود.

ويستخلص من ديباجة القرار 2334 المتعلق بالمستوطنات، أنه استند الى الفصل السادس الذي تحدث عن حل النزاع حلاً سلمياً. ولم يستند الى الفصل السابع الذي يجبر إسرائيل على تنفيذ القرار بحذافيره نصاً وروحاً. لهذا السبب، أعلن نتانياهو أنه في صدد استكمال تحدياته ببناء عشرات الوحدات السكنية في الضفة الغربية والقدس الشرقية.

ويراهن الفلسطينيون على مؤتمر باريس الذي يعقد منتصف الشهر المقبل. وهم يتوقعون من الوزير الأميركي جون كيري مواصلة إطلاق ردّ حازم يمثل وجهة نظر رئيسه أوباما، ويربك، الى حد ما، خلفه دونالد ترامب.

اعتراض الفلسطينيين على بناء المستوطنات لم يبدأ بعد حرب 1967، كما تحدّده وثائق الأمم المتحدة، وإنما يعود بالتاريخ الى سنة 1913. في ذلك الحين، سجل كاتب أرشيف الإمبراطورية العثمانية شكوى تقدّم بها بعض المخاتير في «زرنوقة» الفلسطينية الى السلطان محمد الخامس، يعترضون على تجاوزات ارتكبها اليهود. وتقول الشكوى (وفق ما جاء في النص): «هاجم يهود قريتنا وسلبوا ونهبوا الأملاك، وقتلوا العباد، ومسّوا بشرف العائلة في شكل يصعب وصفه بالكلمات».

يقول المؤرخون أن غولدا مائير ساهمت في ترويج كذبة انطلت على العالم اليهودي أنشتاين، الذي كتب لها يسأل عن مصير السكان الأصليين، فكان جوابها مختصراً: «فلسطين، أرض بلا شعب... لشعب بلا أرض»! وكان ذلك قبل أن تقرر قيادة عصابة «الهاغانا» طرد أكبر عدد من الفلسطينيين، خصوصاً من الأراضي التي تعتبرها صالحة لدولة إسرائيل (آذار/ مارس 1948).

وتنفيذاً للأوامر، اقترفت مذابح مروعة في دير ياسين واللد والرملة، بطريقة تشبه التطهير العرقي الذي نفذه البيض بحق السود في جنوب أفريقيا. وتشير المعلومات الى أنه لم يبقَ في فلسطين سنة 1949 أكثر من 160 ألف مواطن. هذا كله بسبب امتناع بعض العسكريين عن تنفيذ أوامر الطرد.

إضافة الى هذه التطورات كلها، فإن السلطة الفلسطينية قررت مقاضاة بريطانيا بسبب الوعد الذي أعطاه وزير خارجيتها أرثر بلفور الى اللورد روتشيلد، في 2 تشرين الثاني (نوفمبر) 1917. وبما أن ذلك «الوعد» كان السبب الأساسي في المآسي التي عاناها الفلسطينيون والعرب، فقد قرر الرئيس محمود عباس مقاضاة بريطانيا، بالتنسيق مع الجامعة العربية والدول الصديقة.

وكان الرئيس المصري جمال عبدالناصر قد اختصر للرئيس الأميركي جون كينيدي خطورة النتائج التي صدرت عن وعد بلفور، عندما كتب له يقول: «لقد أعطى مَنْ لا يملك... لمَنْ لا يستحق». ومعنى هذا أن بريطانيا أعطت لليهود أملاكاً لا تملكها... وأن ما حصل عليه يهود الشتات لا يستحقونه من الناحيتين التاريخية والدينية.

حدث أثناء اجتماع الرئيس شارل ديغول بالملك فيصل بن عبدالعزيز، أن سأله عن ادعاءات اليهود بالنسبة الى عودتهم الى الأرض التي نزحوا عنها قبل ألفي سنة. وأجابه العاهل السعودي متسائلاً: ولماذا يحق لليهود وحدهم إحياء التاريخ الغابر، ولا يحق للشعوب الأخرى؟ ولو قُدِّر لكل شعب استرجاع الماضي السحيق لكان من حق الهنود الحمر حكم الولايات المتحدة... ومن حق العرب استرداد الأندلس... والأمثلة على ذلك تشمل كل الدول.

ويُستدَل من مراجعة ظروف الحقبة التي شهدت على إعلان وعد بلفور، أن الفلسطينيين كانوا يشكلون ما نسبته 85 في المئة من عدد سكان فلسطين، بينما لا يزيد عدد اليهود عن واحد في المئة.

أما الحقيقة التاريخية فتتلخص بالتالي: سنة 1890، أنشأت نخبة مختارة من خريجي جامعتي أكسفورد وكامبردج شبكة سياسية ضمت شخصيات أنغلو - ساكسونية تجمعها الرغبة في تأسيس إمبراطورية عظمى. وبسبب الصداقة التي كانت تجمع أرثر جيمس بلفور ووالتر لورد روتشيلد، فقد دخلا في هذه الشبكة كعضوين نافذين. وبما أن روتشيلد كان يحتل مكانة مالية مرموقة، فقد اختير عضواً في الاتحاد الصهيوني - البريطاني الذي كان يرأسه عالم الفيزياء حاييم وايزمان. واستخدم وايزمان الدعم المالي الذي قدمه روتشيلد لتمويل هجرة يهود بولندا وروسيا بعد سنة 1920.

لمناسبة انقضاء مئة سنة على ذلك الحدث التاريخي، قرر الرئيس الفلسطيني محمود عباس مقاضاة بريطانيا بالتنسيق مع الجامعة العربية والدول الصديقة والمتعاطفة. وحجته أن لندن لم تعتذر عن الخطيئة الكبرى التي اقترفتها بحق الشعب الفلسطيني، عندما شجعت اليهود على الهجرة الى فلسطين وهيأت لهم، بواسطة جنود الانتداب، الظروف المواتية للسكن في المدن والقرى والمزارع. وأعلن وزير الخارجية الفلسطيني رياض المالكي، أن القضية سترفع أمام المحكمة الجنائية الدولية.

ورداً على هذا التصريح، قال وزير الأمن الداخلي الإسرائيلي جلعاد أردان: «إن المؤتمر الدولي الذي عقد بعد الحرب العالمية الأولى في سان ريمو (1920)، قد صادق على وعد بلفور». كذلك، تنطح للدفاع عن الوعد البريطاني رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو، الذي فسّر موقف أبو مازن من وعد بلفور بأنه عبارة عن الرفض الفلسطيني الاعتراف بالدولة اليهودية.

هذا ما قاله، قبل أن يشنّ هجومه العنيف على الرئيس أوباما ووزير خارجيته جون كيري الذي قدّم للأميركيين وللرأي العام العالمي مطالعة مدروسة اختصر فيها علاقة الرئيس المغادر بدولة إسرائيل.

والثابت أن الاتهامات التي شنّتها الدول العربية ضد أوباما، بسبب قصوره وعجزه... أو بسبب استغلال غريمه الروسي بوتين هذا العجز في الشرق الأوسط، هذه الاتهامات أيقظت ضميره وحفزته على إثارة موضوع المستوطنات التي هي في الحقيقة «مستعمرات» مسلّحة جاهزة للانقضاض على جمهورية محمود عباس.

بقي أن نذكر أن الخلافات الأميركية - الإسرائيلية لم يسبق أن أخذت هذا البعد السياسي الخطير منذ أزمة بن غوريون مع الرئيس آيزنهاور (العدوان الثلاثي)... وأن تداعياتها المتوقعة ستصيب كل مبادرات السلام بالجمود والأفول!