عبدالله السويجي

لماذا تعلّق أطراف المفاوضات بشكل عام آمالاً على الرغم من قناعاتها بالفشل؟ ولماذا يكبدون أنفسهم عناء السفر من بلد إلى بلد، وينفقون الأموال في الفنادق وتذاكر الطيران والحراسات والمؤتمرات الصحفية، وفي أعماق ذواتهم لا يرجون فائدة من المفاوضات؟ يحدث هذا بين الفلسطينيين و«الإسرائيليين»، أو بين الفلسطينيين أنفسهم (بين السلطة الوطنية التي تحكم الضفة الغربية و حركة حماس التي تحكم قطاع غزة)، وبين أطراف الصراع في ليبيا، وبين النظام والمعارضة في سوريا، وبين الحكومة اليمنية الشرعية من جهة، وما اتفق على تسميتهم ب«الحوثيين» من جهة ثانية.


هل غياب الإرادة هو الذي يحول دون تحقيق أي نجاح يذكر، أم استلاب الإرادة؟ هل الظروف ليست مهيأة للتفاوض أم إن التفاوض أسلوب لإطالة أمد الواقع الراهن؟
بالنسبة للمفاوضات بين الفلسطينيين و«الإسرائيليين»، قد يكون الحديث في الأمر أكثر سهولة ووضوحاً، ف«الإسرائيليون» غير مستعدين لتنفيذ الاتفاقيات السابقة، ومن بينها اتفاق أوسلو، ولا يرغبون في الانسحاب الكلي والحقيقي من أراضي الضفة الغربية، حسب ما جاء في اتفاق أوسلو، ولهذا يخترعون كل يوم وقائع جديدة على الأرض تضيّق حياة الفلسطينيين، وبالتالي تتعقد المفاوضات وتصبح مطالبة الفلسطينيين ل«لإسرائيليين» بالعودة عن هذه الوقائع التي كثرت إلى درجة التعقيد، فإذا كانت المفاوضات حول قضايا استجدت بعد اتفاق أوسلو حققت فشلا ذريعا، فكيف ستنفذ «إسرائيل» اتفاق أوسلو الذي يقضي، كما هو معلن، بإقامة دولة فلسطينية؟ ناهيك عن أن المفاوضات تتم بين طرفين لا تكافؤ بينهما، لا من الناحية العسكرية ولا الاقتصادية، الأمر الذي يجعل الطرف القوي مغتراً بقدرته ومعتقداً أن على الجانب الضعيف الرضوخ لطلباته وإملاءاته. أما ما يتعلق بالمفاوضات بين السلطة الفلسطينية وحركة حماس، فإنها أكثر تعقيداً لأسباب كثيرة منها: الاختلاف في الأيديولوجيا والاستراتيجيات وآليات العمل الوطني، إضافة إلى اختلاف الولاءات والانتماءات، حتى أن المفاوضات تبدو بين شعبين وليس بين شعب واحد، وبين فريقين متناقضين وليس بين فريقين مشتركين في قضية واحدة، ويبدو أن أي مفاوضات ستفشل طالما استمر الخلاف حول آلية التعاطي مع العدو «الإسرائيلي».


أما قضية ليبيا فتعقيداتها ناجمة عن ضبابية انتماءات الأطراف المطلوب منهم تشكيل حكومة موحدة ووطنية، فهم مسلوبو الإرادة والقرار، ولديهم ميليشيات مسلحة تسليحاً جيداً، ويبدو أن هناك سبباً آخر يتمثل في عدم النضج السياسي لدى الفرقاء، إضافة إلى أن واقع الحال المقسم، يعود بفائدة على الأطراف، اقتصادياً وسياسياً وإعلامياً وغيرها، ولهذا، بات من الواضح استعداد الدول الأجنبية مثل الولايات المتحدة وألمانيا وإيطاليا للتدخل العسكري المباشر في ليبيا، ليس لمساعدة الأطراف على تشكيل حكومة وطنية، ولكن لمحاربة «داعش» والتنظيمات المتشددة والمتطرفة أو (الإرهابية).


وسوريا ليست أحسن حالاً من ليبيا، بل إن الوضع المتشرذم فيها أسوأ بكثير، على الرغم من وجود دولة لها جيش ومؤسسات، وتحقق انتصارات كل يوم على التنظيمات (المعارضة والإرهابية) حسب تصنيف اللاعبين. والمفاوضات التي عقدت في جنيف مؤخراً كانت محكومة بالفشل قبل أن تبدأ، ف«دي ميستورا» المبعوث الأممي صرح بأن المفاوضات الأخيرة تشكل آخر أمل للسوريين، والولايات المتحدة صرحت بأنها ستتدخل عسكرياً لو فشلت المفاوضات، والمعارضة تطالب الحكومة بتنفيذ طلبات إنسانية كبادرة حسن نية، والحكومة تطالب المعارضة بالإعلان عن أسماء الوفد المفاوض (حيث ظهرت المعارضة منقسمة على ذاتها قبل بدء المفاوضات)، والوفد الذي ذهب للتفاوض أعلن أنه لم يقرر بعد الدخول في مفاوضات، وقالت تقارير إعلامية إن الوفد المفاوض ينتظر تعليمات من هذه الدولة أو تلك، وفي النهاية انسحب وفد المعارضة لأن الحكومة، كما أعلن، لم تنفذ طلباته! وتم تأجيل المفاوضات حتى نهاية الشهر، وفي اعتقادنا، ستبقى معضلة تشكيل الوفد قائمة.


أما المشكلة اليمنية فتتضح فيها الأبعاد المتداخلة داخليا وخارجياً، وبالتالي، فشلت المفاوضات قبل أن تبدأ، فكل طرف متمسك بطلباته، ويريد إقصاء الآخر حتى باتت المفاوضات معضلة لعدة أسباب منها أن ما اتفق على تسميتهم بالحوثيين، لديهم ارتباطات خارجية مع عدم استبعاد الثقل القبائلي، وأنصار الرئيس المخلوع علي عبد الله صالح، الذي يتحكم وابنه في جزء غير قليل من الجيش اليمني، والحوثيون بدورهم يتهمون الرئيس هادي بارتباطات خارجية والاستعانة بجيوش غير يمنية، ويقصدون فيها التحالف العربي بقيادة المملكة العربية السعودية. يوجهون هذه الاتهامات رغم علمهم أنهم انقلبوا على الشرعية، واستعانوا بحليف خارجي تمثل في إيران، وهنا تكمن المعضلة، إذ إن الحوثيين لم تعد أوراق التفاوض في أيديهم، ولهذا يفشلون في كل مرة، لأن محركهم الرئيسي لم يتفق بعد مع التحالف العربي وعلى رأسهم المملكة العربية السعودية. وإن أي اتفاق بين الحكومة الشرعية والحوثيين وأنصار صالح لا بد أن يسبقه اتفاق آخر بين إيران والسعودية ودول التحالف العربية.


لقد استثنينا ذكر التنظيمات المتشددة المتطرفة من الأطراف المتفاوضة لأن أحداً لن يجلس معها للتفاوض، وهي لن توافق على حضور أي مفاوضات لأنها تعتبر الجميع (كفاراً) ولا بد من أن يعودوا إلى الطريق القويم، وأن يتوبوا إلى ربهم، بل أن يُستتابوا، وكأنهم من أصحاب الردة. وهذه التنظيمات موجودة في ليبيا وسوريا واليمن وأيضا في فلسطين، ولها أذرع عديدة داخل أطياف المعارضة.


المفاوضات ستفشل كما يبدو لأن أي اتفاق سيؤدي إلى محاربة تلك التنظيمات التي باتت متجذرة في مختلف الأماكن المذكورة، فهي تسيطر على مدن رئيسية نفطية في ليبيا، وتسيطر على 45% من مساحة سوريا، وتوجد بكثافة في بعض المناطق اليمنية حتى قبل اندلاع القتال بين الحكومة الشرعية والحوثيين. ولكن هل يمكن الركون إلى هذا السبب بالمطلق؟ لا نعتقد ذلك، لأنه ليس السبب الوحيد، ولكن لنفترض أن بشار الأسد تنازل، واستلمت المعارضة (المعتدلة) الحكم، فماذا ستكون أولوياتها؟ لا شك أنها - إن صمدت في وجه داعش وأخواتها - ستقوم بمحاربة التطرف و(الإرهاب)، وهذا يعني أنها ستقوم بمهمة النظام الحالي، مع فارق بسيط هو إمكانية تلقيها الدعم المباشر من الدول الحليفة. ويبدو أن كثيرين لا يريدون نجاح المفاوضات تجنباً للإحراج، لأنهم سيقاتلون حلفاء الأمس الذين سلحوهم ومولوهم واحتضنوهم وجيشوا الشعوب إلى جانبهم.


المفاوضات بين الأطراف المتصارعة على الأرض ليست هي المطلوبة، المفاوضات الحقيقية تتم بين اللاعبين الرئيسيين وتُعقد في الغرف المغلقة وبسرية تامة، ليقرروا ويبدأوا التنفيذ. ودون ذلك، ستبقى المفاوضات وهمية وتراوح مكانها، وستبقى الشعوب تعاني مرارة النزوح والموت والفقر والتوتر، وهذا المنطق ينطبق بكل وضوح على ليبيا وسوريا واليمن والفلسطينيين أيضاً.