محمد عاكف جمال
&
أعلنت قيادة عمليات بغداد في الرابع من فبراير الجاري، بدأها حفر خندق وتشييد سور خرساني حولها مع أبراج مراقبة لحمايتها من تسلل الإرهابيين والسيارات المفخخة، من منطلق أن هذا السور سيسهم في الحد من الخروقات الأمنية التي تستهدف العاصمة بين حين وآخر، هذا فضلاً عن إزالة الحواجز الكونكريتية التي تقطع أوصال المدينة.
&
الأسوار تبنى عادة على الحدود الدولية بين جارين لا يطمئنان لنوايا بعضهما، نقتصر على التذكير ببعضها، جدار برلين الشهير الذي شيد أبان استعار الحرب الباردة، والجدار الذي شيدته إيران على حدودها مع باكستان، والجدار الذي شيدته إسرائيل لعزل نفسها عن الضفة الغربية.
&
وقد بدأت بعض دول القارة الأوروبية التي اختفت الأسوار منها منذ نهاية الحرب العالمية الثانية بالعودة إلى وضع أسوار مؤقتة من الأسلاك الشائكة على بعض الأجزاء من حدودها الدولية لمنع لاجئي أزمات الشرق الأوسط من التدفق عبرها.
&
إذا كان الهدف من بناء هذا السور أمنياً بحتاً، فذلك يعبر عن حالة الضعف في استراتيجية الأجهزة الأمنية، وعدم ارتقاء جهدها الاستخباري إلى مستوى الخبرة التي يُفترض أن تكون قد اكتسبتها وهي تواجه الإرهاب منذ أكثر من عشر سنوات.
&
إلا أن بعض الكتل السياسية ترى أن له بعداً سياسياً يثير القلق، على الرغم من أن مكتب رئيس الوزراء سارع لتأكيد أن السور إجراء أمني خالص والمخاوف بشأنه غير مبررة.
&
من الصعوبة بمكان تقبل فكرة إنشاء هذا السور في ظل الظروف الحالية، فالمعروف أن العمليات الإرهابية قد تراجعت في الآونة الأخيرة. فوفق البيان الذي أصدرته بعثة الأمم المتحدة بالعراق (يونامي) في الرابع والعشرين من ديسمبر المنصرم حول ضحايا عام 2015 بلغ عدد القتلى 11 ألفاً و118، وبلغ عدد المصابين 18 ألفاً و419 في بغداد وفي المحافظات الشمالية والغربية.
&
وهي أرقام ليست الأسوأ إذا عدنا إلى سنوات سابقة، حيث كان عام 2007 الأكثر دموية فقد شهد مقتل 17 ألفاً و956، إلى جانب إصابة أكثر من 21 ألفاً آخرين بجروح.
&
الإرهاب في العراق في تراجع واضح إذا اعتبرنا أن تنظيم داعش هو المصدر الوحيد له، فقد أكد رئيس الوزراء حيدر العبادي أن «القوات العراقية تحقق انتصارات مستمرة على تنظيم داعش الذي أضحى في تراجع».
&
من جانب آخر، كشف البيت الأبيض في الخامس من فبراير الجاري عن تقرير للمخابرات الأميركية مفاده «أن تنظيم داعش لديه 25 ألف مقاتل في سوريا والعراق، في تراجع عن تقدير سابق بأن عدد مقاتليه يبلغ 31 ألف مقاتل».
&
كما نشرت صحيفة «واشنطن بوست» في السابع من فبراير الجاري نقلاً عن محللين ومراقبين بأن قوى داعش في تراجع بعد سلسلة الهزائم الأخيرة التي تكبدها في العراق وسوريا، وهو يتعثر بسبب ما يعانيه من مشكلات مالية ومن تناقص في عدد مقاتليه.
&
لا يوجد إجماع وطني حول مشروع إنشاء السور الذي لم يعرض على المجلس النيابي، فالعاصمة بغداد أصبحت في الآونة الأخيرة في وضع أمني أفضل من مدن عراقية أخرى.
&
من هذا المنظور أثار هذا المشروع مخاوف حقيقية في الوسط السياسي حول أبعاده السياسية والديموغرافية، وتنصب المخاوف حول احتمال أن يكون الغرض منه إجراء تغييرات في الحدود الإدارية للمحافظات، خصوصاً محافظة الأنبار، فقد سبق أن ارتفعت بعض الأصوات مطالبة باقتطاع ناحية «النخيب» التابعة لقضاء الرطبة من محافظة الأنبار وضمها إلى محافظة كربلاء.
&
والحقيقة أن البديل الأمني الأفضل هو اتخاذ إجراءات سياسية والقيام بعملية إصلاحات جذرية تعيد اللحمة الوطنية وإدخال تقنيات أمنية متطورة، فالسور وفق ما تراه بعض القوى السياسية لا يسهم في تعزيز الوحدة الوطنية بل يزيدها فرقة.
&
الهجمات الإرهابية في العراق لم تقتصر على العاصمة بغداد، فقد شهد إقليم كردستان الأكثر استقراراً وأمناً، أكثر من عملية إرهابية، كما شهدت مدن أخرى خصوصاً في محافظتي ديالي وكركوك والأنبار أعمالاً إرهابية مماثلة، فهل ستحذو تلك المدن حذو بغداد وتعزل نفسها بحفر الخنادق وإنشاء الأسوار، ليتحول العراق إلى مجموعة من الكانتونات التي تتحاور مع بعضها من وراء «حجاب».
&
حفر الخنادق وتشييد الأسوار الخرسانية لم تعد وسائل مفيدة في حماية المدن وحماية أرواح ساكنيها في العصر الحديث، فمشاريع كهذه تنتمي إلى حقب زمنية عفا عليها الزمن..
&
فالحلول الأمنية لا تتأتى بالاختباء خلف الخنادق المائية والجدران الكونكريتية بل بالخروج إلى العلن بأجندة «الوطن»، وتعطيل كل ما يقف أمام إعادة اللحمة بين أبنائه واتخاذ ما يلزم من تشريعات وممارسات تعزز الثقة بمؤسسات الدولة، ليصبح المواطن نفسه جزءاً من المؤسسة التي تحافظ على أمنه وأمن الدولة نفسها.
&
تبلغ مساحة بغداد 4555 كيلومتراً مربعاً، وأقصر سور يحيط بها من الناحية الهندسية هو سور ذو شكل دائري، والخندق والسور المزمع تنفيذهما لن يكونا بكل تأكيد كذلك..
&
وبعملية حسابية بسيطة نستنتج أن طول هذا السور يبلغ 240 كيلومتراً من الخرسانة، وهو ما يجعل كلفة الإنشاء باهظة جداً، إذا علمنا بأن كلفة قطعة الخرسانة الواحدة يبلغ زهاء ألف دولار، هذا إضافة إلى كلفة حفر الخندق بنفس طول السور ثلاثة أمتار وعرض مترين، في ظروف يشهد الاقتصاد العراقي فيها انتكاسة كبيرة بسبب الفساد وبسبب الانخفاض الكبير في أسعار النفط.