&حسناء عبد العزيز القنيعير&

لا بدّ أن يجبر بعض رجال الهيئة على تغيير أفكارهم المتشددة خصوصاً فيما يتعلق بالمرأة، حيث بات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وكأنه خاص بها دون غيرها، لا بد أن يجبروا على استيعاب المتغيرات العصرية..

&بين الحين والآخر تحدث تصرفات من قبل أشخاص تثير كثيراً من الإشكالات كان يمكن تجنبها بشيء من الروية والحكمة والشعور بالمسؤولية تجاه المواطنين، وتجاه بلادنا على وجه الخصوص، إذ تتجاوز تلك التصرفات حدود بلادنا، لتنتشر في غاية السرعة في العالم كله بفضل تكنولوجيا الاتصالات الحديثة.. ويأتي على رأس ذلك الحدثان اللذان قام بهما بعض أعضاء هيئة الأمر بالمعروف في منطقة الرياض منذ عدة أيام، أولهما إلقاء القبض على دمية ارتداها شاب أمام متجر للحلويات لأنها على هيئة فتاة غير محتشمة، واتهام الشاب بالتشبه بالنساء!&

ولم تمض سوى سويعات لتتحول القضية إلى قصة عالمية ونكتة في عشرات الصحف والقنوات التلفزيونية الغربية، مثل: (مصادرة دمية على هيئة امرأة، حتى الدمى الإناث بحاجة إلى ارتداء النقاب في السعودية).

&وأما الثانية فقصة فتاة مول النخيل وما شاهده العالم من خلال مقطع فيديو، وكان التعامل مع الفتاة عنيفاً وقاسياً يتنافى مع كل القيم الإسلامية الداعية إلى اللين والرفق وتجنب العنف، لاسيما مع الضعفاء من النسوة والأطفال وكبار السن.. كان ذلك المنظر مؤلماً وغير إنساني بكل المقاييس، وكان يمكن معالجة الموقف بأسلوب غير ذلك الأسلوب الفظ الذي تناقلته الصحف ووكالات الأنباء العالمية، ما يجهض كل جهود بلادنا للرقي بوضع المرأة وتحريرها من القيود التي تكبلها، والإصرار على حبسها ضمن أطر ماضوية تتعارض مع ما أقره لها الإسلام، من حقوق وكرامة ومشاركة مجتمعية كما كانت تفعل نساء الرعيل الأول في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته.&

وقد واجهت الرئاسة العامة لهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ردود فعل في مواقع التواصل الاجتماعي إزاء هذه الحادثة "وأياً كان الخطأ الذي ارتكبته الفتاة أو يرتكبه أي شخص ويستدعي تدخلاً من جهة ضبط رسمية، فإن هذا يجب أن يخضع لمسطرة القانون وحده وليس لمزاجية أو اجتهاد فرد قد يصيب وقد يخطئ، وفي كل الأحوال فإن استخدام العنف غير مسموح به وفقاً للأنظمة المعمول بها في بلادنا".

&وقد أنكر تصرف عضو الهيئة المحامي محمد الجذلاني في تغريدة له قائلاً: ".. يجب ضبط سلوك أعضائها ومحاسبة المخطئ لأنه يشوه الدين، ومن ثبت ارتكابه لسوء سلوك أو اعتداء على الناس، أو كذب في محضر يجب تنقية شعيرة الاحتساب منه ومعاقبته وردعه حتى لا يجترئ غيره على مثل فعله".&

أما المحامي عبدالعزيز القاسم، فأشار إلى أهمية "التفريق بين التزكية في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وبين سلطة الضبط، فسلطة التزكية تبقى مع الهيئة ليعظوا الناس فقط، أما سلطة الضبط فلا بدّ أن تنفصل في جهاز آخر، والخلط بين الحسبة والضبط يجني على الدين وحقوق الإنسان ويخلف الفتنة بين الناس، وحقوق الإنسان، مطاردات الهيئة تسيء إلى سمعة المملكة".&

وكشف رئيس الجمعية الوطنية لحقوق الإنسان أن "مطاردات أعضاء هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر التي تتكرر من حين لآخر، وتبنى على اجتهادات من الفرق الميدانية، تسيء إلى سمعة الجهاز، بالإضافة إلى سمعة المملكة، خاصة إذا كان فيها انتهاك وتعدّ على حقوق الأفراد، في ظل انتشار وسائل التواصل الحديثة".&

كما أبدى مغردون في مواقع التواصل امتعاضهم من تصرف الهيئة بمطاردة فتاة أمام الناس وسحلها -حدّ تكشف أجزاء من جسدها أمام المتجمهرين- الأمر الذي لم يرق لأحد حراس المول الذي سارع إلى تغطيتها، وأجمع غالبيتهم على خطأ تصرف الهيئة بآلية الضبط، حتى لو أنها ارتكبت مخالفة علنية، وأنه لا بّد من محاسبة أعضائها المخطئين عن أخطائهم التي دائماً تصفها الهيئة بالأخطاء الفردية، مطالبين بالعمل وفق الأنظمة والقوانين المشرعة لجهاز الهيئة بعيداً عن الاجتهادات الفردية، ومحاسبتهم إذا تجاوزوها.

&هنا يجدر بنا أن نذكّر القراء بالمواد المتعلقة بحقوق الإنسان في النظام الأساسي للحكم في بلادنا، إذ تنص المادة 26 على (تحمي الدولة حقوق الإنسان، وفق الشريعة الإسلامية)، والمادة 36 (توفر الدولة الأمن لجميع مواطنيها والمقيمين على إقليمها، ولا يجوز تقييد تصرفات أحد، أو توقيفه، أو حبسه، إلا بموجب أحكام النظام)، أما المادة 38 فتنص على أن (العقوبة شخصية، ولا جريمة ولا عقوبة إلا بناء على نص شرعي، أو نص نظامي، ولا عقاب إلا على الأعمال اللاحقة للعمل بالنص النظامي)، وتنص المادة الأربعون على أن (المراسلات البرقية، والبريدية، والمخابرات الهاتفية، وغيرها من وسائل الاتصال، مصونة، ولا يجوز مصادرتها، أو تأخيرها، أو الاطلاع عليها، أو الاستماع إليها، إلا في الحالات التي يبينها النظام)!

&ما يعني أن تصرفات بعض رجال الهيئة في كل القضايا التي اعتدوا فيها على مواطنين ومواطنات من مطاردات وضرب وتفتيش وإرغام على إركابهم سيارات الهيئة، ومصادرة هواتفهم وتفتيشها، تعد مخالفة صريحة لتلك المواد التي كفلت حق المواطن والمقيم وصانته من التجاوز والاعتداء مهما كان جرمه، إلا حسب ما يقرره قانون العقوبات! فإلى متى يضرب بعض أعضاء الهيئة عرض الحائط بما أقره نظام الحكم؟ وإلى متى تستمر هذه الحوادث التي تتكرر بين الحين والآخر في طول بلادنا وعرضها؟ ألا رادع لهم، ومتى استعبد بعض أعضاء الهيئة الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً؟ لقد كان منظر الفتاة وهي ملقاة على الأرض تئن وتصرخ من الحياء والخوف الذي انتابها، مهيناً ومعيباً بحق كل المتجمهرين الذين اكتفوا بالمشاهدة دون أن يستفز ذلك التوحش رجولتهم قبل إنسانيتهم، عدا حارس المول ذلك الرجل الشهم الذي خسر عمله جراء شهامته، أما رجل الهيئة والمناصرون له، فما أدري كيف يمكن أن يكون شعورهم لو كانت إحدى نساء بيته في ذلك الموقف المهين؟

&وكان فرع الرئاسة العامة بمنطقة الرياض أعلن نتائج التحقيق في مقطع فيديو "فتاة النخيل مول"، الذي تداولته بعض وسائل الإعلام ويظهر الفتاة يسحلها أحد رجال الهيئة وتجمهر للمارة. وقال المتحدث الرسمي لفرع الرئاسة العامة بمنطقة الرياض: إنه تم في حينه تشكيل لجنة للتحقيق في الواقعة من جميع جوانبها، وتبين من خلال التحقيق أن الفتاة قد ارتكبت مخالفة تستوجب استيقافها، إلا أن فرقة الهيئة لم تلتزم بالأنظمة والتعليمات المتعلقة بآلية الضبط والاستيقاف؛ مما ترتب عليه تصعيد الموقف.. وإن الهيئة اتخذت العقوبات اللازمة في حق منسوبيها المشاركين في الواقعة، حسب ما تقتضيه الأنظمة والتعليمات!

&جاء اعتراف الهيئة بتحمل بعض منسوبيها الخطأ في الحادثة، ليقطع الطريق على المزايدين ممن يرون أن الدفاع عن أخطاء بعض رجال الهيئة أمر واجب في كل الأحوال، وأن من ينتقد تجاوز بعض أعضائها، ليس سوى منافق أو ليبرالي يريد أن تشيع الفاحشة! وكأن عضو الهيئة ليس موظفاً حكومياً ينطبق عليه ما ينطبق على كل موظفي الدولة، ومن حق الجميع انتقاده عندما يخطئ ويتجاوز ويستغل وظيفته في التسلط على الآخرين، كما ينبغي الفصل بين رجال الهيئة وبين الدين، فمن ينتقد أداء بعضهم لا يعني أنه ينتقد الدين، وهذا من أهم الأمور التي يجب ألا يسمح بالتداخل بينها كما هو حاصل الآن.&

وفي الوقت الذي ذكر فيه بيان الهيئة أن الفتاة ارتكبت مخالفة استوجبت إيقافها، لم يتكرم فيذكر نوع المخالفة، وهل كانت تستحق كل ذلك العنف؟ وهي كانت تقف أمام سوق تجاري يرتاده آلاف المتسوقين، رواية صديقتها بأن كل ما في الأمر أنهما رفضتا نصيحة عضو الهيئة بتغطية وجهيهما، وهو ما أكده بعض من رأى الحادثة من أهل السوق ورواده! فهل يستدعي كشف الوجه كل ما حدث؟ إذ كشف الوجه مسألة خلافية والقاعدة الفقهية تقول: لا إنكار فيما فيه خلاف.. فإلى متى يضع بعض رجال الهيئة قوانينهم الخاصة ويطبقونها بعيداً عن كل الضوابط والتشريعات الدينية والوطنية؟ أما العقوبات التي ذكر البيان أنها اتخذت بحق المخالف، فنرجو ألا تكون النقل لمنطقة أخرى، ليمارس العنف نفسه ضد آخرين، ثم ما يلبث أن يعود للمنطقة التي أُبعد عنها.. ولا ننسى أن نشير إلى أن الهيئة كانت في كل حادثة تذكر أن ذلك تصرف فردي وسيحاسب فاعله.. لكن ما نراه من مخالفات كثيرة يؤكد أن الهيئة لم تفعّل ما وعدت به، وأن ما يحدث ليس فعلاً فردياً بدليل تكراره في أكثر من منطقة..

&تحدث هذه الممارسات من بعض رجال الهيئة في الوقت الذي انطلق فيه منذ عدة أسابيع برنامج التحول الوطني الذي تعبر خططه وأهدافه عن إصرار بلادنا في هذا العهد، عهد الحزم والعزم، على ولوج عصر جديد؛ عبر عدة محاور رئيسة يحتويها البرنامج من أهمها: توجيه الاستثمار العام نحو الموارد البشرية وتنميتها، مع تطوير الخدمات الحكومية، والإسراع في تنفيذ المشروعات الوطنية الكبرى، وتطوير البيئة القانونية، وتنقيتها من كل ما يقف عائقًا أمام جهود التنمية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية.&

كما أن الرياض العاصمة مقبلة على عصر تنموي اقتصادي جديد من خلال استقطاب المستثمرين الخليجيين والأجانب، إذ أعلنت شركة إماراتية عن عزمها على بناء واحد من أكبر المولات التسوّقية في العالم في الجزء الشمالي من مدينة الرياض بتكلفة تتجاوز 11 مليار ريال.. وهذا المشروع يعتبر بكل المقاييس مشروعاً عملاقاً ليس بالنسبة لمنطقتنا فحسب وإنما في العالم أيضا؛ حيث سيكون بمثابة (لاند مارك) في مدينة الرياض، ومصدر جذب لزيارتها، إذ يحتوي المشروع على عدد ضخم من المحلات التجارية المتخصصة في تجارة التجزئة، وكذلك مطاعم ومقاهٍ، وأماكن للترفيه ذات طابع تقني عال، وعدد من الفنادق والفلل الفاخرة وصالة تزلج جليدية ضخمة!

&والسؤال الذي يجدر بنا طرحه هنا هو: كيف سيتعامل رجال الهيئة مع بعض ما جاء من أفكار رائدة في مشروع التحول الوطني، ولا سيما فيما يتعلق بتطوير البيئة القانونية، وتنقيتها مما يقف عائقاً أمام جهود التنمية، لاسيما الاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي تتضمن كثيراً من الأنشطة والفعاليات التي تستوجب اختلاط النساء بالرجال، كما يحدث في الأسواق التجارية، ثم ألا تسبب ممارسات بعض رجال الهيئة غير المسؤولة لمرتادي المشروعات الاستثمارية الكبرى تردد المستثمرين عن الاستثمار في بلادنا، ما يشكل عزوفاً وخطراً حقيقياً على تلك المشروعات الرائدة؟&

لا بدّ أن يجبر بعض رجال الهيئة على تغيير أفكارهم المتشددة خصوصاً فيما يتعلق بالمرأة، حيث بات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وكأنه خاص بها دون غيرها، لا بد أن يجبروا على استيعاب المتغيرات العصرية، وأن ما يفعله بعضهم هو ما يجعل المواطنين يرتحلون في الإجازات القصيرة والطويلة خارج الوطن، ومعهم مليارات الريالات التي هو أحق بها من الآخرين.