&فهمي هويدي

في ليلة يوم الكرامة الذي أعلنه الأطباء المصريون من نقابتهم حدث ما يلي: صدم أمين شرطة شابا وسيدة على طريق قراقص بمركز دمنهور (محافظة البحيرة) حين كان يقود دراجة نارية (موتوسيكل) بدون لوحات معدنية. المواطنون أمسكوا بأمين الشرطة واتجهوا صوب مستشفى دمنهور لإنقاذ المصابين اللذين كانا في حالة يرثى لها.

في طريقهم إلى نقطة المستشفى لكتابة محضر بالواقعة تم تهريب أمين الشرطة المتسبب في الحادث بمساعدة زملاء له. أحدهم حاول التحرش بسيدة من أهالي المصابين فنهره الشباب الذين جاءوا مع المصاب، فما كان من أمين الشرطة إلا أن قادهم إلى النقطة بمن فيهم المصاب ومنها نقل الجميع إلى مركز شرطة المدينة. وهناك تم احتجازهم والتعدي عليهم في وجود الضابط المناوب (غ. ش). وقضوا الليلة هناك انتظارا لعرضهم على النيابة.

هذه خلاصة قصة حدثت مساء يوم الخميس ١١/٢، وتناقلتها مواقع التواصل الاجتماعي طوال نهار الجمعة التي احتشد فيه الأطباء في نقابتهم. ورغم أنني لا أملك وسيلة للتثبت من صحة وقائعها، فإنني أوردتها لصلتها بموضوع احتشاد الأطباء، إذا صحت بطبيعة الحال. وحتى إذا لم تصح فثمة حالات أخرى عديدة مماثلة تؤيد ما ورد فيها. ذلك أنني أزعم أن يوم الكرامة الذي سجله آلاف الأطباء في نقابتهم، احتجاجا على اعتداء أمناء الشرطة في حي «المطرية» على زملائهم بالضرب والسحل ثم اعتبار رجال الشرطة ضحايا والأطباء جناة، هذا الحادث يثير قضية مهمة تستحق وقفة واهتماما. فاعتداء الشرطة على الأطباء ما كان ليحدث لولا أنه يجسد موقف الاستباحة الذي تتعامل به مع كرامات عامة المصريين، منذ أطلقت يد الشرطة في ذلك دون حساب بدعوى مقاومة الإرهاب. ولا ينسى أن قانون الإرهاب أضفى شرعية على تلك الممارسات حين نص في مادته الثامنة على إعفاء رجال الشرطة من المساءلة الجنائية «إذا استعملوا القوة لأداء واجباتهم أو لحماية أنفسهم من خطر محدق...» ــ إزاء ذلك فإن غضب الأطباء في حقيقته ليس مقصورا على إهدار كرامة بعض زملائهم ولكنه ينبغي أن يحمل أيضا بحسبانه رفضا لاستباحة كرامة عموم المصريين، التي ذهبت الشرطة بعيدا في إهدارها. من ثَمَّ فإن ما جرى يجب أن يستقبل بحسبانه جرس إنذار ينبه إلى ضرورة وضع حد لمثل تلك التجاوزات التي طالت كثيرين، وكان بعض المحامين من ضحاياها ولكن نقابتهم لم تملك شجاعة إعلان الاحتجاج لأسباب مفهومة.

وإذ يقدر موقف نقابة الأطباء الذي اتسم بالجرأة والنزاهة، فلعلي لا أبالغ إذا قلت إن ذلك الموقف يعد نقطة تحول كسرت جدار صمت النقابات المهنية على الاعتداءات والإهانات التي تعرض لها أعضاؤها. وفي ذات الوقت فإن المشهد يوجه رسائل أخرى يجب أن تستقبل بحسبانها أجراسا تنبه وتوقظ وتحذر، ومن ثم يجب قراءتها بعناية وتدبر. من تلك الرسائل ما يلي:

• إن احتشاد الأطباء رغم أنه تم في إطار الغيرة المهنية، فإنه أعاد إلى الأذهان لحظات الإجماع النادرة في التاريخ المصري المعاصر. ذلك أن الغضب للكرامة جمع الأطباء باختلاف هوياتهم وانتماءاتهم السياسية والدينية والجهوية. ومن المهم أيضا في هذا السياق ملاحظة أن القوى الوطنية الحية في مصر تضامنت معهم في غضبهم. فقد أيدتهم المنظمات الحقوقية المستقلة. وأحزاب المصري الديمقراطي والتحالف الشعبي والكرامة ومصر القوية. إضافة إلى قائمة طويلة للمثقفين الوطنيين. وهذا الإجماع على إدانة موقف وزارة الداخلية وضرورة الدفاع عن كرامة المصريين، مؤشر ينبغي ألا نغفل دلالته.

• إن الاشتباك الذي أصبحت القوى الوطنية الحية طرفا فيه صوَّب من صورة التجاذب الحاصل في مصر، الذي يحصره البعض في صراع السلطة مع الإخوان أو الإرهاب. حيث يظل ذلك جانبا من الصورة وليس كل الصورة، وما جرى يوم الجمعة كان إشارة إلى أن ثمة جانبا آخر أكثر أهمية مسكوتا عليه محوره علاقة السلطة بالمجتمع يتجلى في انتهاكات حقوق الإنسان والقوانين المقيدة للحريات، والتعول الأمني في مختلف الأنشطة الثقافية والجامعية والدعوية.

• إذا وسعنا الدائرة بعض الشيء فسوف نقرأ دلالة ما جرى في نقابة الأطباء ليس بحسبانه تعبيرا عن اشتباك الأطباء مع الشرطة، لأنه في حقيقته أحد مظاهر اشتباك الدولة الأمنية مع المجتمع. نلاحظ ذلك في الهجوم الجارح والبذيء من جانب الإعلام الأمني على نقابة الأطباء خصوصا النقيب ووكيلة النقابة.

• الملاحظة الأخرى المهمة أن المشهد في جملته جاء دالا أيضا على موت السياسة وإهدار قيمة القانون. ذلك أن الحادث الذي بدأت به أزمة الأطباء كان يمكن احتواؤه بأسلوب متحضر يقوم على التصالح واحترام القانون، ولكن نزعة التحدي وروح القمع هيمنت على المشهد من بدايته فجرى ما جرى. وتمثلت أبرز علامات التحدي. في اعتبار الأطباء جناة كما في إطلاق سراح أمناء الشرطة التسعة الذين اشتركوا في إهانتهم وسحلهم قبل ٢٤ ساعة من انعقاد الجمعية العمومية للأطباء، في رسالة استعلاء وإغاظة عنوانها: أعلا ما في خيلكم اركبوه.

إن أجراس يوم الكرامة عالية الرنين والرسالة مهمة، لكن السؤال الكبير هو: من يسمع أو يقرأ؟