يوسف مكي

على هامش المهرجان الوطني للتراث والثقافة، وفي أروقة فندق الإنتركونتيننتال، بمدينة الرياض، دارت مناقشات مكثفة، حول أهم القضايا الفكرية الراهنة. وفي أحد تلك اللقاءات، توجه أحد الحاضرين بتوجيه السؤال لي مباشرة، عن أسباب سقوط الإيديولوجيات، بالوطن العربي، وتحديداً الإيديولوجيات التي سادت في حقبة النهوض، بعقدي الخمسينات والستينات من القرن المنصرم.

بدا لي أن السؤال، بالطريقة التي طرح بها، حامل لموقف، وأبعد من السعي للحصول على جواب. ذلك أن تقرير نجاح أو فشل تجربة ما، هو أمر نسبي بشكل عام، أما حين يتعلق الأمر بالأفكار، فالأمر مختلف جداً، ذلك أنها من صنع التاريخ، كونها تأتي استجابة لواقع موضوعي. والإيديولوجيات، في جانب منها، هي مجموعة أفكار، تمد بقواعد من السلوك، وتساعد على اتخاذ موقف قيمي من الكون. والأفكار لا تموت، وإنما تتم قراءتها ووعيها في سياقها التاريخي.

وهنا يجدر التمييز بين الإيديولوجيا، كمنظومة أفكار، وبين الحركات السياسية، وبين الشعار والفكر. فالأفكار لا ترتبط قوة حضورها، بوجود عصبة أو جماعة، وإن كانت الجماعة موضوعها الرئيسي، كما أنها ليست بحاجة إلى الشعار، كي تجد مريدين ومهتمين وأتباعاً لها. أمّا الحركات السياسية، فمجالها العمل لتحقيق برامج وأجندات محددة، وللتعبير عن مصالح عصبة ما. وهي ليست بالضرورة، بحاجة لوقوف أفكار خلفها. بل إن الواقع التاريخي، في وطننا العربي، أثبت أن حاجتها للشعار أكثر من حاجتها للفكر.

الفكر يفترض فيه، أن يكون سجالياً، مبدعاً وخلاقاً، معتمداً على القراءة والتحليل، ومحاولة الكشف، وليس شرطه الخضوع للحظة وتجاذباتها، وهدفه يتجه باستمرار نحو المستقبل. وقراءته للماضي، ليست عدمية، بل هدفها وضع الحاضر، في سياق التاريخ، وليس بالضرورة أن يكون للبنية الاجتماعية السائدة، تأثير على تحليلاته واستنتاجاته.

أما الحركات السياسية، فإنها تعمل وفق سياقات محددة، وفي زمن محدد، تتأثر بأوضاعه الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، وتتفاعل معها، وليس بمقدورها تجاوز هذا الواقع. وهي تختار من الفكر، ما يناسب شعاراتها، وما يسهم في تحقيق أجنداتها. بمعنى أن علاقتها بالفكر علاقة انتقائية ومحدودة. والشعار بالنسبة لها، أداة تحريض، وليس بالضرورة تطابقه مع الواقع.

هذه المقدمة، تقودنا إلى السؤال الذي تصدر هذا الحديث، حول فشل الإيديولوجيات العربية، والإشارة هنا إلى الحركات القومية واليسارية. وفي هذا السياق، فإن من الظلم القول إن هذه الإيديولوجيا، لم تحقق أياً من أهدافها.

فالحركة القومية، على سبيل المثال، ارتبطت بحركة اليقظة العربية، وتوق الشعب العربي للتخلص من الهيمنة العثمانية. وأياً يكن تقييم الدور الذي اضطلعت به هذه الحركة، فإن الذي لا شك فيه، أنها أسهمت في استقلال البلدان العربية عن السلطنة. كما أن موقفها من الاستعمار الغربي، ومشاركتها الفعلية، في حركات التحرر الوطني، للتحرر من نير الاستعمار التقليدي، ليس موضع شك أيضاً. لقد نجحت الحركة القومية، في انتزاع الاستقلال من العثمانيين، وقوضت هيمنة الاستعمار الغربي، ووصلت قياداتها إلى سدة الحكم في عدد من الأقطار العربية، التي انطلقت منها حركة اليقظة العربية. لكنها حين تسلمت السلطة، كان نجاحها محدوداً، في قيادة الدولة والمجتمع.

تكشفت جملة من الحقائق حول هذه الحركات، وما يطلق عليه مجازاً بإيديولوجياتها. وكانت أولى هذه الحقائق، أن هذه الحركات، في جلها، غلبت الشعار على الفكر، وكان عملها ميدانياً، بعيداً عن ساحته. وتكشف أيضاً، غربتها عن الشعارات، التي كانت مبرر وجودها.

اتضح أن الهياكل الاجتماعية السائدة، لم تسعفها في قيادة عملية التغيير. والأكثر مرارة، بالنسبة لهذه الحركات، أن هشاشة هذه الهياكل، تسللت لها. واقع الحال، أن هذا التسلل لم يشمل حركة بعينها، بل شمل جميع الحركات السياسية العربية، بمختلف توجهاتها، قومية ويسارية ووطنية ودينية. فكان من نتائج ذلك، أن افتقرت إلى الإيمان بالشعب وبقدرته على الخلق والإبداع. وقد أدى ذلك إلى سيادة الأوهام والضحالة الفكرية، والتقديس الأعمى لدولة الدولة، التي اقترنت في أدبياتها وسلوكها بالسلطة.

وهكذا وجدنا أن هذه الحركات في مجملها، وبغض النظر عن توجهاتها، تحولت إلى حركات شمولية، تقود أنظمة من نوعها، غداة استلامها للسلطة. وتحت سيطرتها، يغيب الرأي والرأي الآخر، وتنعدم المؤسسات الناظمة لحرية الاختلاف.

ولأن قادة هذه الحركات في معظمهم، قد وفدوا من الأرياف، ولم تكن لديهم ثقافة المدينة، فإنهم نقلوا التشكيل البطركي الريفي، وشبكة علاقاته إلى داخل المدينة، وأسهموا بجدارة في ترييف المدن العربية المرشحة لقيادة الحداثة، وبناء الدولة المدنية.

لم تكن هناك إيديولوجيات، بمعناها العلمي المتعارف عليه. فما كان لدينا هو أحزاب سياسية، ببنيات قبلية، حملت شعارات ليست من طينها، ولم تكن تاريخياً مؤهلة لحملها. والنتيجة أن الغلبة لم تكن للشعار، ولا للفكر، الذي لم يكن موجوداً في الأصل، في برامج الحركات السياسية العربية، بل كانت للقبيلة.

باتت لدينا مسميات، تحمل عناوين وشعارات حداثية، لكنها في جوهرها لم تتمكن من تجاوز التشرنق، في الماضي، فكانت غربتها بين شعاراتها وممارساتها. وحين فوجئت بالمشروع الكولونيالي الصهيوني التوسعي، لم تتمكن، بسبب هشاشتها، من هزيمة هذا المشروع. فكانت نكسة يونيو/حزيران 1967م. وتبعها استدارة كاملة، نحو التماهي مع هذا المشروع، والقبول بعقد معاهدات صلح، غير متكافئة وغير متوازنة.

ولن يكون هناك مجال لتغيير المعادلة، إلّا بغلبة الفكر على الشعار، وإعادة تشكيل الهياكل المجتمعية، بما يخدم مشروع التقدم والنهضة، وذلك رهن بالوعي والإرادة والقدرة.

يوسف مكي

على هامش المهرجان الوطني للتراث والثقافة، وفي أروقة فندق الإنتركونتيننتال، بمدينة الرياض، دارت مناقشات مكثفة، حول أهم القضايا الفكرية الراهنة. وفي أحد تلك اللقاءات، توجه أحد الحاضرين بتوجيه السؤال لي مباشرة، عن أسباب سقوط الإيديولوجيات، بالوطن العربي، وتحديداً الإيديولوجيات التي سادت في حقبة النهوض، بعقدي الخمسينات والستينات من القرن المنصرم.

بدا لي أن السؤال، بالطريقة التي طرح بها، حامل لموقف، وأبعد من السعي للحصول على جواب. ذلك أن تقرير نجاح أو فشل تجربة ما، هو أمر نسبي بشكل عام، أما حين يتعلق الأمر بالأفكار، فالأمر مختلف جداً، ذلك أنها من صنع التاريخ، كونها تأتي استجابة لواقع موضوعي. والإيديولوجيات، في جانب منها، هي مجموعة أفكار، تمد بقواعد من السلوك، وتساعد على اتخاذ موقف قيمي من الكون. والأفكار لا تموت، وإنما تتم قراءتها ووعيها في سياقها التاريخي.

وهنا يجدر التمييز بين الإيديولوجيا، كمنظومة أفكار، وبين الحركات السياسية، وبين الشعار والفكر. فالأفكار لا ترتبط قوة حضورها، بوجود عصبة أو جماعة، وإن كانت الجماعة موضوعها الرئيسي، كما أنها ليست بحاجة إلى الشعار، كي تجد مريدين ومهتمين وأتباعاً لها. أمّا الحركات السياسية، فمجالها العمل لتحقيق برامج وأجندات محددة، وللتعبير عن مصالح عصبة ما. وهي ليست بالضرورة، بحاجة لوقوف أفكار خلفها. بل إن الواقع التاريخي، في وطننا العربي، أثبت أن حاجتها للشعار أكثر من حاجتها للفكر.

الفكر يفترض فيه، أن يكون سجالياً، مبدعاً وخلاقاً، معتمداً على القراءة والتحليل، ومحاولة الكشف، وليس شرطه الخضوع للحظة وتجاذباتها، وهدفه يتجه باستمرار نحو المستقبل. وقراءته للماضي، ليست عدمية، بل هدفها وضع الحاضر، في سياق التاريخ، وليس بالضرورة أن يكون للبنية الاجتماعية السائدة، تأثير على تحليلاته واستنتاجاته.

أما الحركات السياسية، فإنها تعمل وفق سياقات محددة، وفي زمن محدد، تتأثر بأوضاعه الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، وتتفاعل معها، وليس بمقدورها تجاوز هذا الواقع. وهي تختار من الفكر، ما يناسب شعاراتها، وما يسهم في تحقيق أجنداتها. بمعنى أن علاقتها بالفكر علاقة انتقائية ومحدودة. والشعار بالنسبة لها، أداة تحريض، وليس بالضرورة تطابقه مع الواقع.

هذه المقدمة، تقودنا إلى السؤال الذي تصدر هذا الحديث، حول فشل الإيديولوجيات العربية، والإشارة هنا إلى الحركات القومية واليسارية. وفي هذا السياق، فإن من الظلم القول إن هذه الإيديولوجيا، لم تحقق أياً من أهدافها.

فالحركة القومية، على سبيل المثال، ارتبطت بحركة اليقظة العربية، وتوق الشعب العربي للتخلص من الهيمنة العثمانية. وأياً يكن تقييم الدور الذي اضطلعت به هذه الحركة، فإن الذي لا شك فيه، أنها أسهمت في استقلال البلدان العربية عن السلطنة. كما أن موقفها من الاستعمار الغربي، ومشاركتها الفعلية، في حركات التحرر الوطني، للتحرر من نير الاستعمار التقليدي، ليس موضع شك أيضاً. لقد نجحت الحركة القومية، في انتزاع الاستقلال من العثمانيين، وقوضت هيمنة الاستعمار الغربي، ووصلت قياداتها إلى سدة الحكم في عدد من الأقطار العربية، التي انطلقت منها حركة اليقظة العربية. لكنها حين تسلمت السلطة، كان نجاحها محدوداً، في قيادة الدولة والمجتمع.

تكشفت جملة من الحقائق حول هذه الحركات، وما يطلق عليه مجازاً بإيديولوجياتها. وكانت أولى هذه الحقائق، أن هذه الحركات، في جلها، غلبت الشعار على الفكر، وكان عملها ميدانياً، بعيداً عن ساحته. وتكشف أيضاً، غربتها عن الشعارات، التي كانت مبرر وجودها.

اتضح أن الهياكل الاجتماعية السائدة، لم تسعفها في قيادة عملية التغيير. والأكثر مرارة، بالنسبة لهذه الحركات، أن هشاشة هذه الهياكل، تسللت لها. واقع الحال، أن هذا التسلل لم يشمل حركة بعينها، بل شمل جميع الحركات السياسية العربية، بمختلف توجهاتها، قومية ويسارية ووطنية ودينية. فكان من نتائج ذلك، أن افتقرت إلى الإيمان بالشعب وبقدرته على الخلق والإبداع. وقد أدى ذلك إلى سيادة الأوهام والضحالة الفكرية، والتقديس الأعمى لدولة الدولة، التي اقترنت في أدبياتها وسلوكها بالسلطة.

وهكذا وجدنا أن هذه الحركات في مجملها، وبغض النظر عن توجهاتها، تحولت إلى حركات شمولية، تقود أنظمة من نوعها، غداة استلامها للسلطة. وتحت سيطرتها، يغيب الرأي والرأي الآخر، وتنعدم المؤسسات الناظمة لحرية الاختلاف.

ولأن قادة هذه الحركات في معظمهم، قد وفدوا من الأرياف، ولم تكن لديهم ثقافة المدينة، فإنهم نقلوا التشكيل البطركي الريفي، وشبكة علاقاته إلى داخل المدينة، وأسهموا بجدارة في ترييف المدن العربية المرشحة لقيادة الحداثة، وبناء الدولة المدنية.

لم تكن هناك إيديولوجيات، بمعناها العلمي المتعارف عليه. فما كان لدينا هو أحزاب سياسية، ببنيات قبلية، حملت شعارات ليست من طينها، ولم تكن تاريخياً مؤهلة لحملها. والنتيجة أن الغلبة لم تكن للشعار، ولا للفكر، الذي لم يكن موجوداً في الأصل، في برامج الحركات السياسية العربية، بل كانت للقبيلة.

باتت لدينا مسميات، تحمل عناوين وشعارات حداثية، لكنها في جوهرها لم تتمكن من تجاوز التشرنق، في الماضي، فكانت غربتها بين شعاراتها وممارساتها. وحين فوجئت بالمشروع الكولونيالي الصهيوني التوسعي، لم تتمكن، بسبب هشاشتها، من هزيمة هذا المشروع. فكانت نكسة يونيو/حزيران 1967م. وتبعها استدارة كاملة، نحو التماهي مع هذا المشروع، والقبول بعقد معاهدات صلح، غير متكافئة وغير متوازنة.

ولن يكون هناك مجال لتغيير المعادلة، إلّا بغلبة الفكر على الشعار، وإعادة تشكيل الهياكل المجتمعية، بما يخدم مشروع التقدم والنهضة، وذلك رهن بالوعي والإرادة والقدرة.